top of page
Anchor 1

كيف تنهض الأمم؟
القيم الكبرى التي تضمن رفعة الدول
نظرة غربية ونظرة إسلامية

 

كثير يتساءلون: كيف نساهم في عودة شأن الأمة؟ وكيف يكون لنا دور في أن تكون أمتنا متفوقة؟ وكيف استطاعت أمم أخرى أن تسبقنا في المجد كل هذه القرون، بل استعمرونا

 

وتحكموا بنا ولا يزالون؟
والإجابة ينبغي أن لا تكون وعظية عامة فيها تكرار الحث على العودة إلى الدين ومجد الأمة، بل لا بد من تحديد أسباب هذا التفوق، وبيان ما يمكن أن يقدمه من يسأل هذا السؤال حتى يُسهم في عودة مجد الأمة وتفوقها. على أنه ينبغي إدراك أن هذه القضية مركّبة من عوامل عديدة، وهذا النوع من القضايا يحتاج إلى بسط وسبر وتقسيم، لكن هذه محاولة للإشارة إلى ما يمكن أن يكون إجابة على هذا السؤال الكبير.
الإجابة -والله أعلم- تكمن في القيم والمثل والمعاني العليا التي إذا سادت في أمة جعلت منها أمة عظيمة ومتفوقة. ومن خلال استقراء تاريخ الأمم التي تفوقت وطال أمد تفوقها تبرز ثلاث قيم هي : الكرامة والحرية والعدالة، وبتأمل عميق للقرآن والسنة والسيرة يتبين أن الإسلام عظّم هذه القيم وجعلها من أركان بناء المجتمع المسلم.
في هذا المقال طرح لمفهوم هذه القيم في الفكر الغربي مقارنة بالطرح الإسلامي كما نص عليه الكتاب والسنة.
الكرامة 
لم تكن الثورات الكبرى في التاريخ لتنطلق لولا شعور الناس بقيمتهم وكرامتهم، وأنهم ليسو تابعين لأي متسلط سواء بقوة السلاح أو بقوة الدين، والعكس صحيح؛ فالشعوب التي كانت راضية بالعبودية تحمّلت للحرمان والمجاعات والقمع والسخرة ، ولم تتمرد على هذه الأوضاع المزرية التي تسبب بها حكّامها الظلمة، ولم تقاوم النظم الاجتماعية والسياسية المهينة كما ثبت في تاريخ أوربا وروسيا والصين حين كان الحاكم عندهم مقدسا وجزءا من الإرادة الإلهية. 
لكن حين انتشر الشعور بالكرامة والقناعة بأن الناس متساوون بآدميتهم وقيمتهم البشرية أصبح للشعوب شأنا مختلفا، بل إن كثيرا من الثورات الكبرى التي غيرت مسار التاريخ حصلت في أوضاع اقتصادية واجتماعية أفضل نسبيا من فترات لم تحصل فيها ثورات. 
تكرر على الفرنسيين قبل ثورتهم الشهيرة، وعلى الروس قبل الثورة البلشفية، وعلى الإنجليز قبل كرومويل، فترات كثيرة عاشوا فيها تحت قهر وظلم وحرمان ولم يثوروا، لأن روح الكرامة لم تدب فيهم، ولأنهم كانوا مقتنعين أنهم تَبَعٌ لحكامهم. نعم ربما حصلت انتفاضات عابرة إمّا قمعت أو تم امتصاصها بتحسين الأوضاع، لكن لم تحصل ثورات تغير التاريخ إلا مع الشعور الحقيقي بالكرامة.
هذا مع أن مفهوم الكرامة عندهم أقل بكثير من الكرامة في الإسلام، ففي الإسلام للإنسان مكانة عالية بسببها سخّر الله له كل شيء في السموات والأرض بينما الإنسان عندهم خصم للطبيعة والكائنات الأخرى. والإنسان في القرآن خليفة في الأرض، بينما الإنسان عندهم كائن لا يختلف عن غيره من الكائنات، إلا في الوعي والمشاعر التي هي بدورها خاضعة عندهم للمادة ولدار الدنيا ومُنقطعة بالموت. والإنسان في الإسلام لا ينتهي شأنه بموته بل حياته الحقيقية في الآخرة وبقية مخلوقات الدنيا إلى فناء، بينما الحياة الدنيا عندهم هي كل الحياة.
وإضافة للكرامة العامة لكل البشر، هناك تكريم خاص للمسلم على بقية البشر، لأنه الوحيد الذي أدى ما خُلق من أجله وهو تحقيق العبودية للخالق، وبذلك تفوّق على بقية البشر بانسجامه مع مسيرة الخلق الكاملة وانسيابه مع نواميس الكون والحياة وحقائق الزمان والمكان، وفي الكتاب والسنة الكثير من النصوص التي تؤكد كرامة الإنسان عموما واستعلاء المسلم خصوصا. 
 
 
الحرية 
الحرية قرينة الكرامة فلا كرامة بلا حرية ولا حرية بلا كرامة، فَأوروبا مثلا لم يصبح لها شأن إلا بعد أن انعتقت من قيود الملوك الظلمة وأعوانهم من القساوسة فصارت مرجعا للعالم كله في السياسة والاقتصاد والإدارة والتقنية. وحتى داخل أوروبا تمايزت الأمم الأوروبية في علو الشأن تبعا لمساحة الحرية فيها، فكلما عظُم شأن الحرية في أمة توسع تأثيرها في العالم وعلا شأنها، وربما كان هذا سببا في سبق التفوق الإنجليزي على بقية الأمم الأوربية دهرا. 
لكن  الحرية بمعناها المطلق تحتوي على إشكالات  قد تضعف من رُكنيتها في  تميز الأمة وعلو شأنها. 
الإشكال الأول أنها دون ثوابت أو مرجعية، وهذا يعني أنها لا تقتصر على التحرر من الطغيان والاستبداد، بل هي انفلات كامل من الضوابط الأخلاقية وقيم الفطرة، ومهما بدا هذا الانفلات يسيرا فإنه سينتهي إلى فوضى اجتماعية قاتلة كما دلّت عليها تجارب التاريخ. وقد مر في التأريخ أمم كانت مستمتعة بالإباحية ولكن تحت طغيان الملوك  فلم تنفعهم هذه الحرية ولم يرتفع شأنهم ولم يتفوقوا على الأمم الأخرى بل  انهزموا و تلاشوا. وهنا يتفوق الإسلام حين يحرر الإنسان من الطغيان والاستبداد لكن يلزمه بحدود أخلاقية واضحة وقيم ثابتة تحمي المجتمع من الانزلاق في أُتون الفوضى الاجتماعية. 
الإشكال الثاني أن الذين انطلقوا في هذه الحرية كانوا مضطرين لوضع نُظُمٍ تمنع تصادم حرياتهم فيتضرر الجميع، فلجأوا لقوانين سنّوها واحتكموا إليها. وهذا الاحتكام لقانون وضعها البشر يعني بالضرورة تقييد الحرية، أو بمعنى آخر الخضوع لقوانين وضعية بشرية تؤول في نهاية الأمر إلى العبودية لمجموعة من البشر. وهنا كذلك يأتي تفوق الإسلام الذي يحرر الإنسان من عبودية العباد تحريرا كاملا، فينزع حق التشريع من المخلوقين ويجعله للخالق فقط، إلا ما كان تفسيرا أو تنزيلا على الواقع بما لا يتعارض مع التشريع الإلهي . 
الإشكال الثالث أن هذه الحرية الخاضعة لتقديرات البشر مضطربة متقلبة، فما كان ممنوعا بالأمس يصبح جائزا غدا أو ربما واجبا، وما كان واجبا بالأمس يغدو ممنوعا غدا، والشواهد على ذلك في القوانين الوضعية كثيرة. وفي موازاة هذا التقلب يتعرض جوهر الحرية للتضييق بما في ذلك الحريات المقدسة في الغرب مثل حرية التعبير والتجمعات والحركة والبيع والشراء.
فخِلال العقود الماضية فقدت الأمم التي تتبنى "الحرية" قائمة طويلة من الحريات التي كانت تتمتع بها، وصار من حق السلطة مصادرة هذه الحريات بحجج مثل الأمن ومنع غسيل الأموال، وذلك برضا الشعب نفسه من خلال تصويت البرلمانات. وهنا يعلو الإسلام بشريعته الثابتة في الواجبات والمحرمات والمقاصد والمصالح الشرعية التي يتضح فيها الحد الفاصل بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة وحقوق السلطة.
الإشكال الرابع أن ضبط حدود الحرية في الغرب لا يضمنه إلا المؤسسات التي تنفذ القانون والتي تعتبر أجهزة آلية خالية من المشاعر، ولا يوجد رادع آخر مبني على قيم أو دين أو خوف من رقابة إلهية.
أما الحرية في الإسلام فهي قبل أن تخضع للسلطة خاضعة لمستويين من الرقابة، الأول شعور الفرد برقابة ربه خوفا من الإثم، والثاني رقابة المجتمع الذي ينمي فيه الإسلام ثقافة الواجب والممنوع على أسس شرعية فيتحول إلى رادع طبيعي بين الناس عن فعل الممنوع. وحين كان المسلمون متشربين لمعنى الحرية الحقيقي وهو "تحرير الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد" صار لهم ذلك الشأن العظيم رغم محدودية قدراتهم ولم تظهر دولة في التاريخ بمثل عظمتهم. 
العدالة 
كانت المطالبة بالعدالة والمساواة في مقدمة مطالب الثوار في كل الثورات الكبرى التي تركت أثرا حضاريا عظيما، ولم تكن الكرامة والحرية لتصنع أمة ذا شأن دون تحقيق العدالة، وتجاوزت نتائج العدالة استقرار الدول وطمأنينة سكانها إلى أنها  كانت سببا في انتصار الدول الممارسة للعدل أو تفوقها السياسي والثقافي على غيرها. ولعل هذا مصداق كلام ابن تيمية رحمه الله " ينصر الله الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة".
والمستوى الأول من العدل هو المستوى المباشر في تحقيق الإنصاف بين المتخاصمين في مجلس القضاء، وهذا لا يتم إلا باستقلال الجهاز القضائي في اختيار القضاة والإجراءات القضائية وطريقة إصدار الأحكام فهل تحقق هذا كاملا في الغرب؟
أما منع السلطة التنفيذية من التدخل في أوضاع القضاة وإجراءات القضاء وسير القضايا فهذا تحقق بدرجة عالية. لكن القضاة ملزمون بإصدار الأحكام تبعا لقوانين وضعها غيرهم من البشر، و ملزمون أن يغيروا أَقضيتهم إذا غير "المشرعون" هذا القانون، فهم وإن استقلوا عن السلطة التنفيذية في الإجراءات القضائية فهم ملزمون بما تضعه السلطة التشريعية. وهنا يتفوق الإسلام الذي يحقق الاستقلال الكامل للقضاء لأن القاضي لا يخضع لأي بشر بل يخضع للشرع المنزل من عند الله فقط. 
المستوى الثاني من العدالة هو العدل بين الناس في بقية شؤون حياتهم وليس في فض المنازعات فقط، والمَبني في الغرب على تساوي الفرص، ولهذا يسمونه المساواة.
كانت بداية انطلاق الغرب في تحقيق المساواة تراعي الفوارق الطبيعية بين البشر ولذلك حققت هذه العدالة نتائج عظيمة في رفعة هذه الشعوب وعلو شأنها. ثم بدأت هذه المراعاة تتلاشى حتى وصلت مستوى خطيرا من مصادمة الفطرة والتمرد على الطبيعة الأصلية للبشر؛ فصار السعي للعدالة المزعومة يتضمن إفسادا لمفهوم العدالة.
 
فمثلا تعريف "ماهية" الرجل والمرأة وتغيير جنس الأطفال وتغليب حق السلطة على الوالدين في ضبط وتوجيه الأولاد بل وانتزاعُهم من والديهم، كل هذه القضايا وأمثالها لم تعد وجهات نظر تناقَشُ صحفيا بل  أصبحت قوانين ملزِمة يحكم بها القضاة و تنفذها الشرطة، وفي بعض البلدان يُجرّم ويُعاقب من ينتقدها. 
 
أما مفهوم العدالة الشاملة في الإسلام فهو أوسع من هذه المفاهيم كلها؛ لأنه عدل مع كل شيء، ابتداء بنبذ الظلم الأكبر والاستمساك بالعدل الأعظم بتوحيد الخالق سبحانه، ثم مع الرسل بطاعتهم، ثم مع البشر بأصنافِهم المختلفة، ثم مع كل الكائنات الحية، ثم مع الكون والطبيعة بجَماداتها وحوادثها. وهذه كلها مرتبطة بوشائج لا تنفصم؛ فكما أن المسلم مأمور بتوحيد الله فهو مأمور بالاقتصاد في الماء ومأمور بحماية البيئة و مأمور بحسن معاملة الحيوانات الخ.  
والإسلام في عدله ينسجم مع الفطرة انسجاما كاملا ويرفض مفهوم المساواة المطلقة. ففي الإسلام يتحقق العدل إذا بنيت العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس التكامل وليس على أساس الندية والصراع، ويتحقق العدل مع الأبناء إذا بنيت على أساس المسؤولية مقابل البر والإحسان، وهكذا بين كل مستويات الفوارق الطبيعية. 
 
وهناك إشكال آخر يقدح في مفهوم العدالة الشاملة عند الغرب يتمثل في إعفائهم أنفسهم من العدل مع الشعوب الأخرى وتخويلهم الحق الكامل في ظلم هذه الشعوب وأكل خيراتها وحماية الطغاة الذين يتسلطون عليها. أما في الإسلام فلا استثناء ولا إعفاءات، فالشريعة واضحة وحقوق الآخرين -بحسب حالهم- منصوص عليها بتعاليم ثابتة، بل إن الإسلام لا يحمي حقوق البشر فقط بل يحمي مقدرات الآخرين حتى لو كانوا أعداء، ولهذا ورد النهي عن قطع الشجر وتخريب الديار. 
 
نعم حاول الغرب أن ينشيء المؤسسات الدولية ويسن القانون الدولي الذي يفترض أن يحقق العدل بين كل الشعوب لكن هذا لم يمنع تغول الدول على بعضها، بل تحولت كثير من المؤسسات الدولية إلى شرعنة هذا التغول وأحيانا أصبحت هي بذاتها أداة قمع وابتزاز للشعوب الأخرى.
 
بقي أن نقول أن هذه القيم رغم ضرورتها لعلو الأمم فإنها لا يمكن أن توجد دون هوية وانتماء ودون شعور بالمسؤولية الجماعية والتحلي بالأمانة.  لن توجد الكرامة والحرية والعدل في أمة فشت فيها الأنانية ومرد الناس فيها على النفاق ولا فرصة لهذه القيم لأمة ليس لها هوية. وهذا الموضوع، الانتماء والمسؤولية والأمانة، يستحق طرحا مستقلا في مقال آخر إن شاء الله.

 

bottom of page