هل تنتصر الأمة بعد هذا التآمر العالمي عليها؟
هذا الوضع المحزن والمؤلم الذي تمر به الأمة يدفع للسؤال: هل هناك أمل بالخروج منه إلى عزة وتمكين؟
أين اتجهت إلى الإسلام في بلد **** تجده كالطير مقصوصا جناحاه
فلسطين يتسابق العرب في بيعها للصهاينة، ومصر تئن تحت طغيان السيسي، واليمن تشرذمت وتمزقت، والعراق تحت الحقد الصفوي، وفي سوريا ملايين المشردين والقتلى والسجناء، وبلاد الحرمين تتحول إلى عدو للإسلام ومرتع للفسقة، وفي الهند والصين استئصال للإسلام، وهكذا بقية بلاد المسلمين، إن لم يكن بها قمع ففيها فتن وفوضى وفساد وجهل وتناحر بين المحسوبين على الدين. والمؤلم أن الوضع - فيما يبدو للبعض- يزداد سوءا سنة بعد سنة، خاصة بعد ما يسمى بالثورة المضادة التي أتت إثر الربيع العربي. هذا الحال يجعل الأمة أمام مجموعة من الأسئلة المحبطة:
لماذا يزداد الوضع سوءا؟ وكلما بدا ضوء في آخر النفق يختفي هذا الضوء؟
هل هذا هو قدرنا، أن نبقى ضعفاء يتسلط علينا الظلمة والمستبدون وتتلاعب بنا القوى الأخرى؟
هل مصيرنا يؤول إلى مزيد من الحصار على الدين إلى أن تتخلى الأمة عن دينها؟
لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة إلا بطرح مجموعة من الحقائق التي تضع واقع المسلمين الحالي في السياق التاريخي الصحيح، وربما بعد معرفة هذه الحقائق يتحول اليأس إلى أمل، والتشاؤم إلى تفاؤل، والإحباط إلى تطلع.
الحقيقة الأولى:
أن العالم كله يتعاون ضد الإسلام، حتى الدول التي بينها عداوات تاريخية. ويشمل التعاون الميادين السياسية والأمنية والاستخباراتية والعسكرية بل والمالية. بدأ هذا التعاون ضد "الإرهاب " ثم تطور ضد "الإسلام السياسي" وفي بعض الدول ضد الإسلام نفسه. وليس سرا أن الإسلام الآن في مقدمة أولوياتهم، فهم يتحدثون بصوت مرتفع عن قلقهم منه، ويعقدون المؤتمرات و يفرغون أعدادا هائلة من الباحثين لمتابعة نشاطات المسلمين.
والسؤال المتبادر هنا لماذا لم يكن هذا التوجه بهذه الكثافة والتركيز في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات وحتى التسعينات الميلادية؟ ولعل الجواب أن الإسلام وقتها لم يكن مرعبا لخصومه، بعبارة أخرى لو لم تكن قوة الإسلام تتنامى لما تعاظمت درجة الخوف والتآمر ضده.
الحقيقة الثانية:
الضعف والفتن والانتكاسات ليست جديدة على المسلمين، ومع ذلك نهضوا في كل مرة منها بكفاءة وعادت هيمنة الإسلام وهيبته.
اندلعت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم مقتل الحسين رضي الله عنه وموقعة الحرة والمعارك بين ابن الزبير والأمويين وثورة القراء على الحجاج، ثم عاد الإسلام قويا ووصلت فتوحاته إلى أوروبا والصين. وفي أزمنة لاحقة ابتُلي المسلمون بفتنة القرامطة الذين اقتحموا المسجد الحرام وسرقوا الحجر الأسود وقتلوا الحُجّاج وألقوهم في زمزم وتغنوا بالكفر البواح في باحة المسجد ثم تطهرت بلاد المسلمين منهم ومن آثارهم.
سيطر الصليبيون على بيت المقدس والشام وأجزاء من مصر قرنين كاملين وفتكوا بالمسلمين ومع ذلك طُهّرت الأرض منهم وعادت قوة الإسلام. اجتاح المغول العالم الإسلامي قتلا وحرقا وتدميرا وامتلأ الناس رعبا منهم حتى كانت قصص خضوع المسلمين لهم مخجلة، ومع ذلك زالت آثارهم وعادت قوة الإسلام بل هدى الله كثيرا منهم. وجاء بعد موجة المغول الأولى تيمور لنك الذي قتل وحرق ودمر ثم نهض المسلمون بعدها، ووصلوا إلى أسوار فيينا. وفي كل مرة يبدو وكأن الأمة لن تنجو، لكن يبعث الله من يجدد شأن هذا الدين.
الحقيقة الثالثة:
ليست أمتنا الوحيدة التي مرّت بمضائق يُخيّل أننا لا نخرج منها، بل أمم كثيرة وقعت في كوارث وعصور ظلمات قاسية. مر الأوربيون بحروب كارثية أفنت جزءا كبيرا من السكان وقضت على كيانات حضارية كاملة. فألمانيا مثلاً فقدت ثلث شعبها في حرب الثلاثين عامًا ثم نهضت وكأن لم يكن شيئا، وأسبانيا وهولندا طالت الحرب بينهما ثمانين عاما ثم عادت الأمور لطبيعتها ولم يندثروا للأبد.
وعاش الإنجليز تجربة مريرة ودماء في حرب الوردتين ثلاثين عاما ثم ثورة لسنين طويلة في الخلاص من الملكيين حتى انتصرت وأزالت استبداد الملك المطلق. في فرنسا اندلعت الثورة وظلّت عقودا بين مد وجز وتوالت فيها المذابح والفوضى وقُمع الثوار بدعمٍ دوليّ، ثم شيئًا فشيئًا استعادوا قوتهم، وأعادوا هيكلتهم من جديد.
أمريكا مرت بحرب التحرير سنوات طويلة ولم تكد تقف على قدميها حتى اجتاحها الجيش البريطاني مرة أخرى وكادت واشنطن أن تعود للملكية البريطانية، ثم لم تتعافى من ذلك حتى دهمتها الحرب الأهلية التي استغرقت سنوات وقتل فيها أكثر من نصف مليون إنسان ثم عادت وصارت أعظم دولة في العالم.
في إيران ثار مصدق في خمسينات القرن الماضي وجرد الشاه من سلطته فانقلب عليه الجيش وأعاد الشاه، ثم لم يمر عقدين حتى جاءت ثورة الخميني وطرد الشاه وأزيلت دولته العميقة بالكامل. هذه الأزمات وتجارب الشعوب تضع الفوارق بين من يمل ويستكين، ومن يصبر ويصابر ليصل إلى التمكين.
الحقيقة الرابعة:
لماذا تقتصر الرؤية على المآسي فقط؟ فلو عرضت الصورة كاملةً لشوهدت إرهاصات العزة والتمكين.
يجمع المراقبون والباحثون أن الوعي بالانتماء الإسلامي والهوية الإسلامية والمسؤولية تجاه الدين ووجوب الانضباط بمنهجية شرعية واحترام الرموز الإسلامية تنامى بشكل كبير في العقود الخمس الماضية. وفي عملية رصد للصراع الفكريّ والإعلامي والحركي في العقود الماضية منذ خمسينات القرن الماضي حتى الآن دليل واضح على اكتساح الطرح الإسلامي لوجدان وعقول الشعوب.
كان الجدل الفكري في الخمسينات وبداية الستينات علمانيا صرفا بين الشيوعي والبعثي والاشتراكي والرأسمالي والناصري والقومي الخ، ولم يكن للرموز الإسلامية أثر كبير. في نهاية الستينات والسبعينات ارتفع صوت الإسلاميين في صراعهم مع كل هذه القوى حتى تمكنوا من هزيمتها جميعا إلا بقايا الفكر الرأسمالي الليبرالي. ومنذ التسعينات تحول الجدل إلى إسلامي إسلامي وحتى العلمانيون والليبراليون اضطروا لتقديم أطروحاتهم على مائدة إسلامية. وأما علو شأن دعاة الإلحاد والتخلي عن القيم والثوابت الدينية في السنوات الأخيرة فهو علو مصطنع معتمد كليا على دعم سياسي محلي وعالمي بعد أن صار "الربيع العربي" ينذر بقوة الإسلام القادمة.
الحقيقة الخامسة:
هذا الابتلاء للمسلمين على مستوى الجماعة حتمي نص عليه القرآن في قوله تعالى ﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾،
وفي هذا السياق قصة خباب بن الأرت قبل الهجرة، قال: "شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ." - رواه البخاريّ.
واستمر الحال بعد الهجرة ووصل الخناق على المسلمين حتى أن الصحابة الذين هم أفضل أمة في التاريخ يستبطئون نصر الله ويظنون بالله الظنون، قال تعالى ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ فالابتلاء بتأخير النصر حتمي لحكمة ربانية بالغة، ولا بد من الاستعداد النفسي له.
ولعل في ترتيب أحداث السيرة تهيئة لما يصيبنا خلال وبعد الربيع العربي، ومبشرة بنصر قريب. فالمسلمون انتشوا بالنصر في معركة بدر، ثم جاءت انتكاسة غزوة أحد، ثم التضييق الشديد في الخندق، ثم جاء الفتح العظيم. ومعظم المسلمين انتشوا بانتصارات الربيع العربي ثم جاءت انتكاسة الثورات المضادة، ثم حصل هذا التضييق الشديد على كل دعوة للإسلام، والفتح قادم بعون الله.
ونموذج أخر لنفس الدرس نراه في قصة موسى عليه السلام، حيث اشتكى له بنو إسرائيل أن بلائهم استمر بعد وصوله إليهم ﴿ قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنۢ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ ثم دعا موسى ربه كما أخبرنا القرآن ﴿وَقالَ موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيتَ فِرعَونَ وَمَلَأَهُ زينَةً وَأَموالًا فِي الحَياةِ الدُّنيا رَبَّنا لِيُضِلّوا عَن سَبيلِكَ رَبَّنَا اطمِس عَلى أَموالِهِم وَاشدُد عَلى قُلوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ﴾ فكان جواب الله سبحانه ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وكانت هذه الاستجابة على مرحلتين، الفورية وهي هلاك فرعون وجيشه، والثانية تمكين بني إسرائيل بعد أن مروا بتجربة أزالت منهم أثار الذل والهوان.
الحقيقة السادسة:
هي التأكيد النبوي أن الأمة مهما عانت من حصار واختراق وتشويه لن ينقرض فيها المصلحون والقائمون بأمر الله ولن يتمكن الأعداء من تحريف أو تزوير الدين. ففي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي قائمةً بأمرِ اللهِ، لا يَضُرُّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتىَ أمرُ اللهِ، وهم ظاهِرُونَ على الناسِ." هذه بشرى نبوية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بأن النصر آتٍ لا محالة ما دام في الأمة رجال ثابتون على دينه، يتصدون لأعداءه.
الحقيقة السابعة:
بشائر النصر تُرى في إضعاف الله للمكذبين والمعادين والمنافقين، وذلك من خلال انحسار القوى التي تتربص بالإسلام، ثم نشوء وتزايد الصراعات بينهم كدول والصراعات داخل كل دولة. فالشعبوية تفتك بأمريكا وأوربا، والليبرالية المتطرفة تدمر العقول والأخلاق وتقضي على كيان الأسرة وأواصر المجتمع. وهذا التفوق الذي تمتعوا به ردحا من الزمن بسبب الحرية والكرامة والعدل فيما بينهم والإخلاص للوطن تُرى بوادر زواله، بسبب الشعبوية والأنانية والانقسام المجتمعي والضياع النفسي. نعم ربما يأخذ انحسار هيمنتهم وقتا لكن هذا جزء من حركة التاريخ ولا بد منه.
إن معرفة هذه الحقائق وأمثالها، ومعرفة هذه الوقائع ونظائرها جديرة أن تبعث الأمل وتقوي العزائم وتزيل الإحباط وتشجع على طول النفس والصبر في انتظار النصر. ورغم أن من مقتضيات ذلك أن التحديات ستكون هائلة والمهمة ثقيلة والثمن الذي يدفع سيكون ضخما، لكن النصر حتمي بعون الله.