top of page

١٧ رمضان ١٤٤٤ هـ

أسئلة حساسة في الإسلام والسياسة

بقلم الدكتور سعد الفقيه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:


فإن المسلم مثلما هو محكوم بالشرع في عبادته الفردية وعلاقاته مع المجتمع ونشاطاته المالية والتجارية؛ فهو كذلك محكوم بالشرع في تعامله مع السلطة، فالإسلام دين شامل كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}. ومثلما المسلم الفرد محكوم بالشرع فالسّلطة كذلك محكومة بالشرع في طريقة إنشائها وقراراتها وتعاملها مع البلد ومقدَّراتِه والشعب والشعوب والأمم الأخرى.


إشارات مهمة: 

وإنشاء السلطة ومتى تكون شرعية أو غير شرعية، وكيف يجب التعامل مع كل حالة من أحوالها؛ قضايا ينبني عليها أسئلة كثيرة معظمها حسَّاسة ومتداخلة، والتأصيل الشرعي فيها يحتاج إلى تكييف واضح لكيان الدولة ونظام الدولة والفرد الحاكم، وعلاقة السلطة بكيان الدولة والمجتمع. وقبل استعراض مجموعة من هذه الأسئلة الحساسة التي يكثُر حولها الجدل لا بد من الإشارة إلى قضايا مهمة تضع المهتم بالموضوع على المنصة الصحيحة في تناول هذا الموضوع الحساس:


أولا: الحديث عن أحكام العلاقة مع السلطة عُرضة للترغيب والترهيب، وكثير من السلطات الظالمة -خاصة في هذا الزمن- دأبُها إسكاتُ الناطقين بالحق، والسماح فقط لمن يفسّر ويشرح ويفتي بما يؤدي إلى تطويع الناس للحكام. ولذا فليس غريبًا أن يتراكم التزوير والتضليل في أحكام العلاقة مع السلطة، وليس غريبًا كذلك أن يغيبَ الجو المتوازن ومن ثَمَّ يندُر التجرّد في تناول هذه المواضيع بسبب تغوُّل السلطات الظالمة أو المجرّدة من الشرعية الدينية.


ثانيا: الإسلام في تشريعاته يتعامل مع ثلاثة مستويات:

الأول: كيان الدولة وهو نطاق سلطة هذه الدولة.

والثاني: نظام الدولة وهو المؤسسات الحاكمة وطريقة حكمها.

والثالث: الفرد الحاكم، خليفةً كان أو رئيسا أو ملكا أو سلطانا. 

ومن الإشكالات التي يقع فيها كثير ممن يتناولون مباحث العلاقة مع السلطة أنهم يهتمون بشرعية الفرد الحاكم ويتجاهلون ما له علاقة بشرعية الكيان وشرعية النظام، فيتحول التأصيل الإسلامي العظيم في السياسة إلى فكر مختزل في شخص الحاكم ويدور حول كونه مسلمًا أو كافرًا.


ثالثا: معظم مَن يتناول هذه القضايا يدَّعون السلفية التي يُفترَض أنها الأخذ بالدليل، وكل تناولهم مبني على ما ذُكِر أعلاه وهو أن شرعية السلطة محدودة في شرعية الفرد الحاكم، ويسوقون نصوصًا شرعية من الكتاب والسنة وأقوال علماء السلف يزعمون فيها أن الحاكم يجب أن يُطاع مهما كان حاله ما دام داخل دائرة الإسلام. وربط القضية بالسلفية أعطَى انطباعًا أن السلفية أداة من أدوات تطويع الشعوب للحكام خاصة مع قَصْر منصات الفتوى والعلم الشرعي على المداهنين للحكام والخادمين لمُرادهم. 


رابعا: كل الدول التي تُسمى إسلامية حاليًا تتحكم بنشاط العلماء من خلالهم ترسيمهم في مؤسسات تابعة للسلطة بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يجعل العالم بالضرورة تابعا للسلطة ويدور في فلكها إلا ما ندر. وهذا خلاف ما كان عليه العلماء في التاريخ الإسلامي؛ حيث كان العلماء يعتمدون على الأوقاف وكل نشاطاتهم مستقلة عن الدولة، مما أعطاهم حرية في الفتوى وقدرة على قول كلمة الحق. 


ما دام التأصيل الإسلامي حول الدولة المسلمة وشرعيتها واسع و مرتبط بشرعية الكيان وشرعية النظام؛ فلماذا يركز العلماء على شرعية الفرد الحاكم فقط؟ 


سبب تركيز العلماء على شرعية الفرد الحاكم هو أن علماء السلف كانوا في معظم حالاتهم يعيشون تحت كيان إسلامي واحد ونظام يُحكم بالشرع ويرفع راية الجهاد ويقيم شعائر الدين، مما يعني أن شرعية الكيان وشرعية النظام قد تم تأمينها، والتحديات الفقهية معظمها يدور حول شخص الحاكم ومدى التزامه بالشورى والعدل والصلاح.


والحكام الذين توالوا على حكم المسلمين رغم ما كان فيهم من استبداد وظلم وفساد شخصي بقيتْ دولةُ الإسلام في عهدهم إما ملتزمةً بكيان واحد أو تسعى لكيان واحد فأُمِنَتْ بذلك شرعية الكيان(1). وكذلك الحال مع نظام الحكم فقد كان الشرع هو القانون المعمول به وراية الجهاد مرفوعة حتى في أسوأ مراحل الاستبداد والظلم مما أدى لتأمين شرعية النظام، وبهذا لم تَبقَ إلا شرعية الفرد الحاكم، فمن هنا جاء التركيز عليها.


وأسهم في ذلك قيامُ الدولة القطرية الحديثة التي ألغت مفهوم الكيان الموحَّد واحتكرَت حق التشريع ورسَّمت العلماء في أجهزتها(2). وهذا التغيير في تركيبة الدولة لم يُدركْه كثير من علماء المسلمين، فرحّلوا كل المفاهيم الشرعية المؤسسة على الدولة الإسلامية على تركيبة الدولة الحديثة، وكرَّروا  كلام الأولين، غير مدركين أهمية شرعية الكيان وشرعية النظام، و عاجزين عن تصور الفرق بين الدولة الإسلامية الأولى والدولة الحديثة، أو ربما تعمدوا التجاهل حتى لا تُورِّطهم في الحكم بعدم شرعية هذه الأنظمة. 


ما الذي أجمع عليه علماء أهل السنة حول الأنظمة الحاكمة والحكام؟


أجمع العلماء على وجوب إقامة الإمامة الشرعية التي من خلالها تتوحد كلمة المسلمين ويُحكَم بالشرع وتُقام شعائر الدين وتُحمى الثغور ويُبسَط الأمن وتُؤمّن السبل. وهذا يعني أن الأمة مكلفة بالسعي لإقامة هذه الإمامة بهذه المواصفات إذا لم تكن موجودة، ومكلفة بإتمام مواصفاتها إذا كانت ناقصة.


وأجمعوا على وجوب الشورى في اختيار الحاكم، وفي وجوب استشارة الحاكم لأهل الشورى في قراراته، وأن يكون عادلا صالحا حريصًا على راحة وأمن رعيته، لكن اختلفوا في حكم من تولى من غير شورى أو صدر منه ظلم أو فجور أو تقصير في حق الرعية .


 وأجمعوا على أن لا بيعة ولا طاعة للنظام الذي يقترف الكفر البواح؛ لأن النص صريح وواضح في الحديث المتفق عليه: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان". وتعطيل الحكم بما أنزل الله من خلال القوانين الوضعية و موالاة الكفار ومظاهرتهم ضد المسلمين وغيرها مما توصف به الأنظمة الحالية هو من الكفر البواح الذي لا خلاف عليه. أما إذا كان النظام يحارب الإسلام من خلال سجن وقتل العلماء والدعاة وتعذيبهم وتعطيل شعائر الدين والإلزام بالعقائد المنحرفة من خلال التعليم والإعلام ونشر الأخلاق السيئة بقوة السلطة؛ فهذا تجاوز الكفر إلى عداوة للإسلام فلا شك في عدم أحقيته للبيعة بل وجوب السعي لإزالته وإقامة الإمامة الشرعية التي تعتبر غير موجودة. 


وأجمعوا على أنه لا يجوز الخروج على الخليفة الراشد الذي استلم السلطة بالشورى ويتخذ قراراته بالشورى والذي سلطته تمتد لكل المسلمين والذي يحكم بالشرع ويقيم العدل وشعائر الدين فضلا عن صلاحه الشخصي.


وأجمعوا على أن الحاكم إذا أمر بمعصية فلا طاعة له عملًا بقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه: «لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»، وأحاديث أخرى كثيرة بهذا المعنى.


وهل أجمع علماء السنة على وجوب طاعة الإمام الفاسق أو الظالم أو المستبد؟


علماء السنة فريقان في الموقف من الحكام الظلمة أو الفجرة أو المستبدين:


الفريق الأول: يرى أن لا طاعة للحاكم الظالم أو الفاسق أو المستبد "المتغلب"، ويشترطون أن يكون الحاكم قد وصل عن طريق الشورى، وأن يكون عادلا وأن يكون مستقيما صالحا. وهذا الرأي كان عليه غالب الصحابة والتابعين وأبو حنيفة ويُنسب لمالك والشافعي وغيرهم من الأئمة، وكان سببا في ثورات الحسين وأهل المدينة على يزيد، وقرّاء البصرة على الحجاج وغيرهم. 


والفريق الثاني وهو الرأي الذي ساد متأخرا بعد الصحابة والتابعين، وأصحابه يرون وجوب طاعة الظالم أو الفاسق أو المستبد، ويحرمون الخروج عليه شرط أن لا يقترف الكفر البواح وأن يكون مقيما للشرع موحدا لكلمة المسلمين رافعا راية الجهاد معظّما لشعائر الدين. 


وقد ناقش الدكتور عبد الله الدميجي هذا الموضوع باستفاضة وعرض رأي الفريقين بالتفصيل في كتابه الإمامة العظمى(3) وسرد أسماء كل فريق وأقوالهم، ثم ناقش أدلتهم.


الذين يرون وجوب الطاعة للحاكم الفاسق أو الظالم أو المستبد هل ينفون وجوب الشورى؟


العلماء الذين يرون طاعة الفاسق أو الظالم أو المستبد لا ينفون وجوب الشورى، بل يعتبرونها واجبة سواء في اختيار الحاكم أو في إلزامه باستشارة أهل الحل والعقد في قراراته، ويُقرّون أن تعطيل الشورى إثم، ولكن يعتقدون أن التنازل عنها ليس مجانا، بل هو في سبيل جمع كلمة المسلمين في دولة واحدة وإقامة الحدود (تحكيم الشرع) ورفع راية الدين من خلال الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم تتحقق هذه الأمور فلا يرون الطاعة أصلا بشورى أو بدون شورى. 


الفريق الذي يرى طاعة الفاجر أو الظالم أو المستبد المتغلب كيف يتعاملون مع الحاكم وبماذا يصفونه؟


العلماء الذين يرون طاعة الفاجر أو الظالم أو المستبد ويُحرّمون منابذته بالسلاح يتعاملون معه بالتالي: 

أولا: يصفونه بما فيه من ظلم أو فجور أو استبداد ولا يُزكونه ولا يُثنون عليه. 

ثانيا: يُنكرون عليه ظُلمه وفسقه واستبداده علنًا ويتبرأون من ذلك حتى لو تعرضوا للأذى في سبيل ذلك.

ثالثا: يعتبرون مَن يزكيه أو يقترب منه أو يُحسب عليه من أعوان الظلمة ويقاطعونه وينكرون عليه.

والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- الذي يعتبر رمزا لهذا الفريق كان من أكثر العلماء انضباطا بهذه الطريقة في معاملة الحكام، ومثله كثير من علماء السلف في العصور الأولى. أما من يزعمون الانتماء إلى هذه المدرسة حديثا من زاعمي السلفية فهم يتنافسون في تزكية الحكام الظلمة ويتسابقون في التزلف إليهم والاقتراب منهم ويُجرّمون ويبدّعون ويفسقون من ينكر عليهم، بل يصفونه بالخارجي، رغم زعمهم الاقتداء بأحمد بن حنبل.


ما هو موقف الفريق الذي يرى طاعة المستبد الظالم أو الفاجر من الفريق الآخر الذي لا يرى طاعة الحاكم المستبد أو الظالم او الفاجر؟


الفريق الذي يرى طاعة الحاكم الظالم أو الفاجر أو المتغلب المستبد يعتبر الفريق الآخر الذي يرى الخروج المسلح عليهم مجتهدين مخطئين مأجورين ولا يُجرّمونهم ولا يُؤثّمونهم، وإلا فمن يجرؤ أن يؤثّم الحسين رضي الله عنه؟ وقد ثبت عن أحمد بن حنبل رحمه الله وهو من أشهر علماء هذه المدرسة أنه يُثني ويترحم على من خرج على المأمون مجتهدا. وربما صدر من عبد الله بن عمر كلام فيه شدّة في حق الذين ثاروا في موقعة الحرة وصدر من أحمد بن حنبل مثله في حق بعض العلماء الذين دعوا للخروج على المأمون، لكن لم يصل إلى حد التأثيم أو الوصف بالخوارج.


هل يمكن تصنيف علماء زماننا المنتسبين للسلفية الذين يزكّون الحكام الظلمة، ويبالغون في مدح المستبدين، ويجرّمون ويبدّعون ويفسقون من يخالف الحكّام، هل يمكن تصنيفهم مع علماء السلف الذين لا يرون الخروج على المتغلب الظالم؟


المقصود بالكلام السابق هو علماء السلف الحقيقيون بدءا بعلماء الصحابة ثم علماء التابعين ثم الأئمة الأربعة ثم من أتى بعدهم مثل النووي وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وغيرهم. أما كثير من علماء زماننا زاعمي السلفية، فهم ملتزمون بالسلفية في كل الشؤون إلا في التعامل مع الحاكم والتعامل مع من ينكر على الحاكم؛ فهم يسلكون مسلك الشيعة في إضفاء العصمة على الحاكم، ومسلك المرجئة في عدم الاعتراف بالكفر البواح، ومسلك الخوارج في تكفير مخالفي الحاكم وتفسيقهم وتبديعهم. وبهذا فهم مخالفون للسلف الأوائل من كل وجه في هذه القضايا.


يحتجّ الذين ينسبون أنفسهم للفريق الأول بأحاديث صحيحة منها قوله ﷺ لمن سأله ألا ننازعهم؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة"، ورواية أخرى "لا، ما صلوا"، أوليس أداء الحاكم للصلاة كافيًا لطاعته؟


أولا: اتفق علماء السنة على أنه لا يجوز في دين الإسلام أخذ دليل واحد أو جزء من دليل وتجاهل الأدلة الأخرى كما نص على ذلك كثير من العلماء، و للإمام الشاطبي تأصيل جميل في ذلك في كتابه "الاعتصام"(4). والأحاديث في وجوب مجاهدة الظالمين كثيرة، وهي التي اعتمد عليها الصحابة والتابعون الذين خرجوا بالسلاح على حكام زمانهم. ولم يكن الحسين رضي الله عنه ولا أبناء الصحابة في المدينة ولا قراء البصرة ولا غيرهم غائبين عن هذا الحديث حين خرجوا.


ثانيا: اتفق شراح الحديث المذكور على أن المقصود بإقامة الصلاة هو إقامة الدين، والدليل هو الأحاديث الأخرى الصحيحة التي وردت بألفاظ كلها في هذا المعنى، "يقودكم بكتاب الله" ، "ما قادكم بكتاب الله"، "ما أقام فيكم كتاب الله" ، " ما أقام لكم دين الله"، "يقيم فيكم كتاب الله". وبهذا يكون معنى "أقام فيكم الصلاة"  شبيها بقول النبي ﷺ "الحج عرفة"، وقد اتفق العلماء أن من وقف بعرفة ولم يؤد أركان الحج الأخرى فلا حج له، وإنما أراد النبي ﷺ أن يؤكد أهمية عرفة في الحج.


فإذا كان الحاكم ونظامه ضامنا لإقامة أركان الإمامة الشرعية في الدولة المسلمة وهي تحكيم الشرع وتوحيد كلمة المسلمين ورفع راية الإسلام و إقامة الشعائر التي تحتاج إلى سلطة ومنع المحرمات التي يحتاج منعها إلى سلطة، إذا كان الحاكم مؤديا لذلك فأصحاب هذا الرأي يرون تحمّل الاستبداد والظلم في سبيل المحافظة على أركان الإمامة الشرعية في كيان الدولة ونظامها. 


وماذا عن الأحاديث الصحيحة التي تحذر من خلع البيعة مثل قوله ﷺ "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وقوله: "من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية". 


الإمام المقصود في هذه الأحاديث هو من توفرت في نظام الحكم عنده الشروط الأساسية المذكورة أعلاه، وهي توحيد كلمة المسلمين وتحكيم الشرع وإقامة الشعائر التي تحتاج إلى سلطة ومنع المحرمات التي تحتاج إلى سلطة. أما من يحكم بقعة من بلاد المسلمين ولا يحكم بالشرع ولا يقيم شعائر الدين؛ فلا إمامة له حتى لو كان في نفسه صالحا وعادلا. وقد أجاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حين سُئل: من الإمام المقصود بهذا الحديث؟ فقال: "تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يُجمع المسلمون عليه، كلهم يقول هذا إمام."(5)


وعلى كل حال فكما قال الشاطبي، لا بد من أخذ الأدلة جملة واحدة وأخذ الشريعة صورة واحدة متكاملة، وأن الذي ينتقي دليلا دون آخر فهو من متبعي الشهوات(6). وإذا عُمل بهذه القاعدة فلا بد من وضع أحاديث الطاعة في مقابل  أحاديث مجاهدة الظلَمة، ومنها ما رواه مسلم وفيه: "فمن جاهدَهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" وقد علق ابن رجب الحنبلي على ذلك بقوله "وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد"(7). ومنها ما رواه أبو داود عن حذيفة في حديث طويل حين سأل النبي ﷺ ما العصمة من ذلك؟ قال: "السيف". ومنها ما ثبت عن  ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: سيَلي أمورَكُم بعدي رجال يُطفئون السنَّة، ويعملون بالبدعة ويؤخِّرونَ الصلاة عن مواقيتِها، فقلت  يا رسول الله إن أدرَكْتُهُم كيفَ أفعل؟ قال: تسألني يا ابنَ أمِّ عبدٍ كيف تفعل؟ لا طاعةَ لمَن عصى الله". ومنها الأدلة الكثيرة التي تحث على إزالة الظلم والمنكر باليد واللسان والقلب والتحذير من التأخر في ذلك. ومنها استشهادهم بعمل الحسين وعبد الله ابن الزبير وعدد كبير من الصحابة والتابعين الذين لجأوا للسيف لإزالة الظلم والفساد والاستبداد. 


وماذا عن حديث حذيفة بن اليمان الطويل الذي في آخره قوله ﷺ: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع."؟


اولا: هذه الجملة الأخيرة "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" مختلف في صحتها(8)، وهي تعارض حديثا أصح منها عند مسلم عن أبي هريرة، أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ، فقال: أرأيت إن جاءني رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، فقال: أفرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فهو في النار" ، وعند البخاري عن عبد الله بن عمرو: "من قتل دون ماله فهو شهيد".


ثانيا: الصحابة أولى مَن يفسر ويطبق هذه الأحاديث وقد ثبت أن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- استعد لقتال عامل معاوية في الطائف حين أراد أن يُصادر أرضه واستشهد بحديث البخاري. وعبد الله بن عمرو من علماء الصحابة، والصحابة أعرف بمراده ﷺ. وبما أن الذي تصدى له عبد الله بن عمرو حاكم المنطقة وهو السلطة ولم يعترض عليه أحدٌ من الصحابة بالحديث الآخَر فموقفه هو الأصح والله أعلم.


ثالثا: إن صحت هذه العبارة وصح استثناؤها من الحديث الآخر الذي يدعو لمقاتلة الصائل على النفس والمال، فيُقصد بها الحاكم الذي يحقق مقاصد الدين من الحكم الإسلامي وهو توحيد كلمة المسلمين وإقامة الشرع ولا يقصد بها الحاكم المعطل للشرع أو الذي لا يحكم إلا إقليما من أقاليم المسلمين؛ وذلكم لأن التنازل عن الحق وتحمل الظلم عند من يرى ذلك إنما هو لأجل المحافظة على الكيان الواحد وإقامة الشرع، وليس لأجل بقاء الحاكم فقط.


وصف النبي ﷺ للخوارج بأوصاف خطيرة حيث قال في الحديث الصحيح: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وفي حديث آخر "فمن لقيهم فليقتلهم، فإن في قتلهم أجرًا عظيمًا عند الله لمن قتلهم." أليس هذا تحذيرا خطيرا من الخروج على الحكام؟


الذين ورد وصفهم في هذه الأحاديث ليس لهم علاقة بمن يخرج على الحكام، فالخروج هنا خروج اصطلاحي عقدي، والمقصود به فرقة بدعية خارج إطار أهل السنة والجماعة. وفكر هذه الفرقة مبني على التقرب إلى الله بتكفير من لا يستحق التكفير من المسلمين وسفك دماء من حُقنت دمائهم من المسلمين والمعاهدين. وهؤلاء يوصَفون بأنهم خوارج وتنطبق عليهم هذه الأحاديث سواء خرجوا بالسلاح على الحكام أو لم يخرجوا.


وكل الأحاديث التي وردت في وصف هؤلاء الخوارج "بالمعنى العقدي" لم يرد فيها إشارة إلى منابذة الحكام، وكلها تدور حول الغلو في التكفير والتساهل في سفك الدماء والغرور الفكري والتعالي على علماء المسلمين وعقلائهم.  


أما الخروج على الحكام بمعنى منابذتهم بالسلاح دون تبني هذا الفكر، فهو وصف لفظي لمن ينابذ أو يقاتل الحكام بالسلاح، وليس له علاقة بالخروج العقدي الاصطلاحي سواء كان هذا الخارج بالسلاح مجتهدا لإزالة الظلم والفساد والاستبداد مثل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وقراء البصرة وفقهاء التابعين، أو كان طالبًا للسلطة مثل مروان بن الحكم وابنه عبد الملك أو العباسيين أو محمد النفس الزكية أو زيد بن علي بن الحسين. والعلماء الموالون للظلمة يتعمّدون الخلط بين المعنيين مستغلين تشابه اللفظين حتى يخدموا الظلمة في تقبيح صورة مَن يجاهدهم مع علمهم بالفرق بين المعنيين.


لو أخذنا برأي مَن يحرم منابذة الحكام حتى لو كانوا ظلمة أو مستبدين، فهل يشمل هذا التحريم من ينكر على الحكام علنًا أو يسعى للتغيير بالمظاهرات والتجمعات دون حمل سلاح؟ 


لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين أن الإنكار على الحكام والسعي لإزالة الظلم والفساد خروج مذموم، وذلك لأن الأحاديث في وجوب السعي لتغيير المنكر والتحذير من السكوت على ظلم وفجور الولاة كثيرة، بل ورد الأمر في الحديث الصريح الصحيح بأطرِهم على الحق أطرا وقَصرهم عليه قصرا، وورد التحذير من عذاب الله إن لم يحصل ذلك، كما ثبت عنه ﷺ وصف مواجهة الظالم بكلمة الحق أنها أفضل الجهاد وأن من يموت في سبيلها هو سيد الشهداء. فكيف تتضافر الأحاديث بهذه المعنى ثم يزعم زاعم أن هذا من الخروج المذموم؟


والعلماء الذين يرددون مثل هذه اللهجة إما أنهم خدمٌ للأنظمة الطاغية الظالمة في مخالفة الأدلة الصريحة، أو إنهم عمتهم البلوى في انتشار هذا الفكر بعد سيطرة سلسلة من الأنظمة على "المؤسسات الدينية" فصار هذا النهج هو السائد وصار يردّده بعض العلماء غير المتهمين. 


ما هو المقصود بالبيعة والطاعة، وإذا كان الفرد ملتزما بالنظام والقانون -على كل حال- فما الفرق بين طاعة الحاكم المسلم وغير المسلم؟


البيعة لها معنى عام ومعنى خاص، فالمعنى العام يقصد به التعهد بالتزام معين لمهمة معينة، مثل بيعة الصحابة للنبي ﷺ في الحديبية والتي تسمى بيعة الرضوان وهي بيعة على أن لا يفروا لو قاتلوا قريشا، ومثل بيعته ﷺ لبعض الصحابة أن لا يسألوا الناس شيئا، ومثل بيعة الصحابة بينهم على الموت في معركة اليرموك. ومثل هذا التبايع الذي بمعنى العهد أساس مشروعية البيعة لبعض الجماعات الإسلامية التي تريد أن تنفذ عملا دون البيعة الخاصة. وقد ناقش ابن تيمية هذا النوع باستفاضة في كتابه "العقود"(9).


أما البيعة الخاصة فهي مبايعة ولي أمر المسلمين وهذه لا تكون ملزمة إلا إذا كان الكيان الذي يحكمه هذا الحاكم كيانا يجمع المسلمين، وإذا كان النظام الذي يرأسه محكّمًا للشرع رافعا راية الدين وحاميا لحمى الإسلام مقيما للشعائر. أما الحاكم نفسه فيكفي عند أحد الفريقين أن يكون أهلا للبيعة إذا كان مسلما مؤديا للفرائض حتى لو تغلّب بالقوة، وأما الفريق الثاني فيشترط أن يكون قد وصل إلى السلطة عن طريق الشورى وأنه تنقض بيعته إذا طرأ عليه فجور أو ظلم. وهذه البيعة هي التي ورد الحث على الالتزام بها والتحذير من نزعها أو التساهل فيها. 


وطاعة الحاكم المسلم بناء على هذه البيعة طاعة تعبدية لها حكم "الواجب" عند الفقهاء، وهو أن يؤجر فاعلها ويأثم تاركها، أما طاعة الأنظمة غير الإسلامية من خلال الالتزام بالنظام والقانون فهي طاعة جبرية ليس في الالتزام بها أجر، ولا في التقصير فيها إثم. 


حتى لو كان الإنكار على الحكام في أصله مشروعا هناك من يقول إن الأولى تركه لأنه سبب في الفتنة والفوضى وانظر ماذا حصل في سوريا وليبيا واليمن وغيرها، فهل هذا الكلام صحيح؟


كيف يكون ما وجّهَنا له الشرع وحذرنا من تركه سببًا للفتنة والفوضى؟ وقد تضافرت الآيات والأحاديث على وجوب إزالة الظلم والفساد المُعلَن، والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا وقصره على الحق قصرا، واعتبار قول كلمة الحق أمام سلطان جائر أفضل الجهاد، والموت في سبيل ذلك أعلى مراتب الشهداء، فمن يزعم أن ذلك يؤدي للفتنة يجعل نفسه أحكم وأعلم من رب العالمين!


وقد ادّعى أحد المنافقين مثل ذلك أيام النبي ﷺ أن مشاركته في غزوة تبوك تُعرّضه للفتنة من نساء بني الأصفر "يقصد الروم"، فنزل القرآن ردا عليه: "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا" أي إن تركه للجهاد بحجة خوف الفتنة هو الفتنة. وقد استنبط ابن تيمية رحمه الله أن معنى هذه الآية يَسري على من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوف الفتنة فقال: "وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يُفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في "سورة براءة"، ويقول في موضع آخر: "لمّا كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يُعرّض به المرء للفتنة: صار في الناس مَن يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال عن المنافقين: {ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني ! ألا في الفتنة سقطوا} الآية.


أما اعتقاد أن الإنكار على الحكام هو الذي يخرب البلاد ويجلب الفوضى فهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة التي نصت بشكل واضح على أن السكوت على الظلم والفساد والبطر هو الذي يؤدي للعقوبة الربانية. وإذا كان من يحتج بذلك سلفيا فهو قد ناقض المنهج السلفي حين قدّم تقديرَه العقلي على النصوص الشرعية وهذا مسلك المعتزلة وليس مسلك أهل السنة والسلف. 


وما أصاب الناس في سوريا وليبيا واليمن وغيرها إنما هو بسبب السكوت لعقود على الظلم والفساد وليس بسبب الثورات نفسها، والأمم لا بد أن تدفع ثمن هذا السكوت الذي كلما طال أمده كلما طال أمد الثمن الذي يُدفع بسببه.


آخرون يقولون إنه حتى لو كان الحاكم كافرا لا يجوز الخروج عليه إلا بعد التيقن من القدرة على ذلك، وإلا فلا يجوز.


العالم مطلوب منه الحكم الشرعي فقط، وأما تقديره للواقع فمن المعلوم أن صاحب التخصص أقدر منه في ذلك؛ فالعالم مكلف مثلا أن يحدد الحكم الشرعي في عداوة أو مسالمة دولة أو طائفة لكن ليس له أن يقرر سير المعارك العسكرية، و له الحق أن يحدد الحكم الشرعي بجواز أو تحريم نوع من أنواع العمليات الجراحية لكن ليس له أن يقرر ملاءمة المريض الفلاني لتلك العملية، وهكذا. 


وينطبق هذا الكلام على من يفتي بحرمة المظاهرات في بلد معين خوفًا من تداعياتها، بينما هو في الأصل يرى شرعيتها وذلك بتقديره الشخصي أنها تُسبب أضرارًا أكبر من الأضرار التي انبعثت من أجل إزالتها، فهو بهذا قد خلط بين الفتوى الشرعية التي هي بيان الحكم الشرعي، وبين وجهة نظر تقديرية بشرية لا يختص بها العلماء.


هناك من يقول إن الملكيات في هذا الزمان لا تختلف عن الدولة الأموية والعباسية التي رضي بها المسلمون وتسمى خلافة ويسمى حكامها خلفاء، فلماذا لا تعطى ممالك هذا الزمان نفس الوصف؟


أولا: كما ذُكر أعلاه كانت الدولة الأموية والعباسية موحِّدة لكلمة المسلمين مقيمة للشرع رافعة لراية الجهاد والمخالفة فيها كانت فقط في استبداد وظلم الحاكم. أما في ممالك هذا الزمان فلا هي التي وحَّدت كلمة المسلمين ولا هي التي حكمت بالشرع.


ثانيا: ليس صحيحا أن كل العلماء رضوا بحكم المتغلبين من الدولتين الأموية والعباسية، بل هي مليئة بالثورات المسلحة المدعومة من العلماء أو التي يقودها العلماء. فإضافةً إلى ثورة الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقد أيد معظم التابعين في العراق الثورة على الحجاج وقد أيد أبو حنيفة ثورة محمد الملقب بالنفس الزكية على العباسيين. 



--------------------------------------------------------------------------------

(1) للشيخ محمد الحسن الددو هنا شرحٌ لحديث حذيفة عن الملك العاضّ والملك الجبري يؤيد ما ذكرنا من أن الحكم الإسلامي أيام الأمويين والعباسيين هو ما ينطبق عليه وصف الملك العاض والمعنى أنه كان موحِّدًا لكلمة المسلمين مقيمًا للشرع خلافًا للحكم الجبري الحالي.

(2) ناقش الأستاذ وائل حلاق هذه القضية باستفاضة في كتابه "الدولة المستحيلة" وملخص كلامه أن هيكلية الدولة الحديثة يتعارض مع أركان الشرعية في الدولة الإسلامية.

(3) الإمامة العظمى: من ص ٤٩٠ إلى ٥٤٨ وهنا رابط القراءة والتحميل.

(4) الاعتصام الجزء الأول (٢٤٤ -٢٤٦)

(5) كتاب السنة للخلال ج ١ ص ٨١

(6) الاعتصام الجزء الأول (٢٤٤ -٢٤٦)

(7) جامع العلوم والحكم، صفحة ٤

(8) هنا بحث جيد في صحة عبارة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" في حديث مسلم يميل فيه الباحث إلى تضعيفها مع أنه ممن ينصر معناها

وهنا بحث آخر يصل إلى نفس النتيجة.

(9) الكتاب يسمى العقود ويسمى كذلك نظرية العقد وهنا يمكن تحميله وقراءته.

bottom of page