top of page

١٥ ربيع الأول ١٤٤٥ هـ

أسئلة في التطبيع

بقلم الدكتور سعد الفقيه

هل التطبيع تبادل السفراء بين إسرائيل والدولة العربية المطبّعة؟

تبادل السفراء وإقامة سفارة إسرائيلية (في  بلد عربي أو مسلم) ورفع العلم الإسرائيلي عليها ليس إلا رمزا ظاهريا لمَفهوم التطبيع. أما التطبيع الحقيقي الذي تريده إسرائيل فله مستويان، أحدُهما تم تنفيذه مع أو بدون سفارة، والآخر لم يتم، ولن يتم مهما حاول الإسرائيليون وعملائهم من الخونة العرب تنفيذه.


المستوى الذي تم تنفيذه هو التنسيق والتعاون السياسي والأمني والتجاري والاقتصادي بين إسرائيل والدولة المطبّعة. هذا التنسيق والتعاون موجه ضد الكيانات التي لا تزال تتصدى للكيان الإسرائيلي وضدّ الإسلام والعروبة وضدّ الشعوب العربية، بما فيها شعب الدولة المطبّعة. هذا التنسيق حصل مع دول عربية كثيرة في مقدمتها السلطة الفلسطينية، ثم مصر والأردن والإمارات والبحرين والسعودية والمغرب، وبدرجةٍ أقل عمان وقطر وتونس.


أما المستوى الثاني الذي فشل ولن ينجح أبدا مهما حاول الإسرائيليون والأنظمة فرضه فهو التطبيع مع الشعوب.  كان يراد لهذه الشعوب أن تتقبل فكرة التعامل مع إسرائيل كأيّ بلدٍ آخر، أو بأمنيةٍ أعلى كأيّ بلد عربي. وقد أثبتت التجربة أن شعوب الدول التي طبعت منذ عقود لا تزال تعتبر إسرائيل عدواً وترفُضها جملة وتفصيلا، وتتنجّس من التعامل مع أي رمز لها أو أي شخص محسوب عليها. ورغم سعي الحكومات الحثيث لمسخ هذه الشعوب وسلخها عن انتمائها الإسلامي العربي وإبعادها عن مرجعيتها الدينية فإن الغالبية العظمى لا تزال تتعامل مع إسرائيل من منطلق ديني مترسخ في وجدانها.


هل الدول العربية الرافضة للتطبيع تناهض التطبيع؟

مهما زعمت الدول الرافضة للتطبيع أنها ضد إسرائيل فهي في الحقيقة خادمة لإسرائيل ومدافعة عنها، سواء كانت محاذية لإسرائيل مثل سوريا أو بعيدة عنها مثل الجزائر وليبيا والعراق. صحيح أن هذه الدول ترفض التعامل مع إسرائيل لكنها ساهمت في أمن إسرائيل من خلال إزالة خطر هذه الشعوب عليها.


القمع والاستعباد الذي تتعرض له شعوب تلك الدول أدى بالمواطنين إلى أن يكونوا قطيعا ذليلا، لا يَملك من الإرادة والقدرة على التنظيم ما يؤهله للتحرك ضدّ الظلم الواقع عليه فضلا عن التحرك ضدّ إسرائيل. كما قدمت هذه الأنظمة خدمة استراتيجية لإسرائيل من خلال الاجتهاد في إبعاد هذه الشعوب عن الالتزام الإسلامي، ومن ثم محاولة إزالة أهم أسباب رفض إسرائيل وهو الباعث الديني. ورغم بقاء الجذوة الدينية في ضمير هذه الشعوب إلا أن الأنظمة نجحت في منع ترجمة هذه الجذوة إلى عمل.


أما في حال الدول المتاخمة لإسرائيل فقد خدمت الأمن الإسرائيلي بشكل مباشر من خلال الحماية الحقيقيّة  لحدود إسرائيل، ومنع أي عمل مسلح ضدها. وربما يغيب عن ذهن الكثير أن أفضل مثال على ذلك هو السلطة الفلسطينية التي جندت عشرات الآلاف من المجندين لمحاربة المقاومة واستئصال جذورها ومنع أي نشاط يشكل خطرا على إسرائيل.


هل نرفض التطبيع بسبب قمع إسرائيل للفلسطينيّين؟

لا شك أن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال والاعتداءات المتكررة على المسجد الاقصى ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات شيء يثير الغضب، لكن هل موقفنا من إسرائيل مربوطٌ بهذه المعاناة؟ الجواب قطعاً لا، لأن ربطه بالمعاناة فقط يعني أنه لو تحسنت معاملة الفلسطينيين فلن يكون لدينا اعتراض على بقاء إسرائيل باحتلالها وقوتها وهذا تخلٍّ كاملٍ عن قضية مبدئية لا جدال فيها.


والإعلام العربي الخائن ومعه كثير من الكتاب الرخيصين والأبواق المستأجرة يبذل جهدا ضخما في اختزال القضية في معاناة الفلسطينيين، عسى ولعلّ أن تتشبّع الشعوب بهذا المنطق ثم تتخلّى عن الموقف المبدئي من إسرائيل. والأسوأ من ذلك أن هذه المعاناة تُذكر بطريقة مائعة رمادية ليس فيها مقياس موضوعي، مما يعطي الإعلام الحق أن يقرر لاحقا أن هذه المعاناة انتهت ولم يعد هناك سبب لاتخاذ موقف سلبي تجاه إسرائيل.


قد يجاري بعض المشاهير والكتاب المستقلين هذا الطرح لفترة ما لكن عمق الموقف المبدئي من إسرائيل في الشعوب العربية لن يؤثر فيه هذا التحوير للقضية ولن يحرفُه عن المسار، وسيبقى تصور إسرائيل كدولة محتلة لفلسطين هو المستقر في أذهان الشعوب ووجدانها.


ومن المفارقات أن الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون في مناطق ٤٨ أفضل من حال معظم الشعوب العربية تحت استبداد حكامها. ومع الأسف فإن هؤلاء الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية من عرب ٤٨ يتمتعون بوضع مادي وحقوقي يتفوق بامتياز على كثير من الشعوب العربية وخاصة على الفلسطينيين تحت نفوذ السلطة الفلسطينية.


وبهذا فكأنّ الإسرائيليين يقولون لو قبلتم بِنُفوذ إسرائيل على الضفة فإن أحوال الفلسطينيين الحقوقية والمادية ستكون أفضل مما هي عليه تحت السلطة. وهذا يعني أنه إذا ربطت القضية بالمعاناة فمن حق الإسرائيليين أن يحتجّوا بأن أوضاع العرب في مناطق ٤٨ أفضل من أحوال الدول العربية حقوقيا ومن ثم ينهار الجدل المبني على معاناة الفلسطينيين.


هل نرفض التطبيع لأن إسرائيل رفضت حلّ الدولتين؟

حل الدولتين يعني دولة فلسطينية بديلة عن السلطة الفلسطينية، ولأن إسرائيل ترفض أي نوع من السيادة فإن الذين يطرحون هذا الطرح يتفادون الحديث عن تفاصيل هذه الدولة. والسبب هو أن السيادة الحقيقية تعني حدودا واضحة وقوات مسلحة وعضوية كاملة في المؤسسات الدولية وهو ما يتعارض بنيوياً مع المشروع الصهيوني.


وهذا يعني أنّ حل الدولتين ليس إلا طرحاً نظرياً يُؤمّلُ به الفلسطينيون مع استحالة تحقيقه بسبب الرفض الإسرائيلي الاستراتيجي له، وأبسط مثال على ذلك أن إسرائيل يستحيل أن تتنازل عن القدس التي يصرّ الفلسطينيون أن تكون عاصمة لدولتهم. وبغض النظر عن إمكانية إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة بجانب إسرائيل، هل يمكن استخدام رفض إسرائيل لحل الدولتين حُجّة لرفض التطبيع؟


القبول بهذا الجدل يعني ضمنا الاعتراف بدولة إسرائيل التي تحتل أرضا عربية مسلمة، وهذا لا يليق أبدا بمن يعتبر إسرائيل كيانا مرفوضا من أصله. لكن ماذا يضير في استخدام هذه الحجة فقط لإثبات استحالة التفاهم مع إسرائيل، ومن ثم رفض التطبيع مع كيان لا يرضى بالتفاهم النهائي مع الفلسطينيين؟ الذي يضير هو أن الاستغراق في هذا الطرح يرسخ في الضمير العربي القبول بدولة إسرائيل، ومن ثم تكون إسرائيل حقّقت مكسباً في اختراق الوجدان العربي وتقبّل وجودها دون أمل في دولة فلسطينية.


إذا كان التطبيع يحقق مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية فلماذا نرفضه؟

تقادَمَ الجهد الإعلامي من قبل السلطات الخائنة في العالم العربي حتى صار الحديث عن الاستفادة من إسرائيل اقتصاديا وأمنيا وسياسيا بل وعسكريا أمرا قابلا للطرح والنقاش، بل والتطبيق كما حصل في الإمارات. ولا شك أن الموقف المبدئي دينا وعروبة يجب أن يمنع هذا التفكير من أصله، لكن لو استبعد العامل الديني والعربي هل يترتب على التعاون مع إسرائيل مصالح حقيقية؟


أولاً: عاش العالم العربي عقودا طويلة مستغنيا عن إسرائيل مقاطعا لها ولم يخسر شيئا من ذلك، وكل ما يمكن أن تقدمه إسرائيل موجود عند دول كثيرة مما يجعل الحاجة لإسرائيل حجّةً داحضة وجدلاً خاسراً.


ثانيا: الدول التي طبعت مع إسرائيل منذ مدة طويلة مثل مصر والأردن وتعاونت أمنيا واقتصاديا وعسكريا لم تكسب إلا المزيد من الانهيار الاقتصادي والضعف العسكري والأمني والفشل التنموي. أما الدول التي طبعت بالخفاء مثل السعودية والإمارات فإن تعاونها لم يكن إلا ضد شعوبها في برامج التجسس أو ضد العرب والمسلمين في تنسيق المواقف العسكرية والأمنية.


ثالثا: أي تبادل عسكري واقتصادي وأمني مع إسرائيل لن يكون مماثلا للتبادل مع الدول الأخرى، وذلك لأن إسرائيل مسكونة بواقعها العنصري "الإحلالي"، وأي تبادل معها سيكون محكوما بهذه العقلية المبنية على ضرورة التفوق الأمني الإسرائيلي واختراق مراكز القوى في الدول العربية.


رابعا: المراهنة على تبادل عسكري واقتصادي وأمني مع إسرائيل من خلال تجاهل البعد الديني والقومي يعد خطرا استراتيجيا لأن إسرائيل في انحدار متسارع، والوضع الإقليمي والعالمي لا يسير لصالحها ومن ثم فإن أي سلطة تتعاون مع إسرائيل بهذه الطريقة سوف ينتقم منها الشعب عاجلا أو آجلا إذا تغيرت الموازين.


هل نرفض التطبيع خوفا من توسع إسرائيل "من النيل إلى الفرات"؟

بعض الرافضين للتطبيع يقولون: كيف نطبّع من يريد أن يستمر في الاحتلال حتى يستولي على مساحة تمتد من مصر إلى العراق ويشمل ذلك الاستيلاء على مكة والمدينة طبقا للمشروع الصهيوني "من النيل إلى الفرات"؟ ومن المفارقة أن هذا التفكير مفيد لإسرائيل أكثر من نفعه لمناهِضي التطبيع وذلك لعدة أسباب:


السبب الأول أن من يدعو لذلك كأنّه يربط التطبيع فقط بنيّة التوسع الصهيونية، فإذا ما نجحت إسرائيل في إقناع شعوب المنطقة أنه ليس لديها نيّة للتوسع وأنها تسعى فقط للتعايش السلمي مع جيرانها، فإنها تقلب هذه الحجّة لصالحها ما دام القلق من توسعها غير وارد.


السبب الثاني أن إسرائيل فعلا لا تريد التوسع ولا تستطيعه، فهي عاجزة عجزا كاملا عن السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، فكيف تستطيع التوسع من النيل إلى الفرات، وكيف تسيطر عسكريا على الجزيرة العربية ومكة والمدينة؟


السبب الثالث أن إسرائيل مسيطرة فعلا على جزء كبير من العالم العربي دون وجود عسكري من خلال الحكام الذي يمثل كل منهم "مندوبا ساميا" شبيها بالمندوب السامي أيام الاستعمار. هؤلاء الحكام ينفذون لإسرائيل كل ما تريد من الحرب على الدين والعروبة والهوية والانتماء والأخلاق حتى يخضع لها كل العرب فلماذا تكلف نفسها بغزوٍ عسكريّ مصيرها فيه الخسارة. والذين يرفضون التطبيع بحجة الخوف من احتلال إسرائيلي "من النيل إلى الفرات" كأنهم يبرِؤون الحكام الخونة من خدمتهم للمشروع الصهيوني في تطويع الشعوب لإسرائيل.


هل يجب أن نقلق من هذا الاندفاع في التطبيع؟

في التعامل مع التطبيع لا بد من الموازنة بين أمرين، الأول بذلُ الجهد الأقصى في محاربة التطبيع بكل أشكاله، والثاني القناعة الراسخة أنه مهما بذلت هذه الحكومات من جهد فإسرائيل زائلة وقريباً. هذا التوازن ضروري، لأن بعض المتحمّسين في محاربة التطبيع يصيبهم اليأس حين يرون هذا التسارع من قبل الحكومات المتحمسة للتطبيع، وبعض الواثقين من زوال إسرائيل يدفعهم هذا الاعتقاد للكسل في مواجهة التطبيع.


والقناعة بزوال إسرائيل ليست ناتجة عن تفكيرٍ رغبوي وآمالٍ خيالية، بل هي حتمية طبيعية لنظام نشاز حُشِرَ اعتسافاً في محيط لا يقبله.  وتَمَكُنِ إسرائيل من البقاء إنما هو بسبب ظروف مؤقتة، تماما مثل العضو المزروع في جسم لا يتقبله، لكن هذا العضو بقي بسبب مضادات المناعة التي لن تستطيع بعد فترة حمايته من الرفض.


وعلى كل حال فإسرائيل في أفول سريع، فهي تخسر من خلال انحسار الدعم الدولي، وتخسر في نسيجها الشعبي والصدام الاجتماعي العنيف في داخلها. على المستوى الدولي كُسرت هيبة إسرائيل في أوروبا وأمريكا، وصار انتقاد إسرائيل ظاهرة مقبولة، ونأى كثير من اليهود المقيمين في أمريكا وأوربا بأنفسهم عنها. أما داخل إسرائيل فقد وصل الصدام بين الصهاينة المتدينين والعلمانيين إلى مستوى يضرب في أساس الدولة ولا يبدو في الأفق فرصة للتفاهم بين الطرفين.


والأنظمة المستعجلة في التطبيع عاجزة عن إدراك هذا الانحدار في نفوذ إسرائيل وتفككها الداخلي، لأن الحكام القائمين على هذه الأنظمة يقدّسون إسرائيل إلى درجة جعلتهم عاجزين عن تصور أنها يمكن أن تنهار. وهذا فأل خير وبُشرى بأن هذه الانظمة ستزول مع إسرائيل أو حتى قبل زوالها.


لماذا إذن نرفض التطبيع؟

جوهر قضية فلسطين هو إزاحة شعب عربي مسلم من أرضه وتهجيره وإحلال اليهود القادمين من أصقاع الأرض محله، ثم صناعة دولة اسمها إسرائيل. ومع الزمن شطبت هذه الحقيقة وفرض واقعٌ جديد اعترفت به المحافل الدولية وكثير من الدول العربية، وتفرغ الإعلام الموجه (عالمياً وعربياً) لصياغةٍ ذهنيةٍ عربية لا تعرف شيئا عن أصل القضية. صاحب ذلك قمعٌ شديدٌ لجذوةِ المقاومة من قبل أجهزة المخابرات العربية، مدعوماً بمؤامرات متواصلة لإنهاء المقاومة عسكريا وسياسيا ومعنويا.


في هذا الجو المحرّف ظهرت الأجيال الجديدة وهي تُـلقّن أن قضية فلسطين محصورة في احتلال "دولة إسرائيل" لأراض عربية سنة ١٩٦٧ دون أي إشارة إلى أصل تأسيس إسرائيل. وبناء على هذا الفهم المحرّف أعيد تشكيل القضية لأجل أن يكون أقصى مراد الفلسطينيين إخراج إسرائيل من المناطق المحتلة عام ٦٧.


ولولا العامل الديني لما عاد أحد  يفكر بالعودة للأصل، وهو أن المشكلة تكمن في كل إسرائيل وليس في احتلال الضفة والقطاع، ولا حل إلا أن تعود البلد كلها للفلسطينيين ويتم التعامل مع القضية من منطلق إسلامي. وإذا أعيد وضع القضية في هذا الإطار تبين السبب الحقيقي لرفض التطبيع وانهارت كل الدعاوى الأخرى التي تختزل القضية في معاناة أو قرارات دولية أو تنزع عنها البعد الإسلامي.


bottom of page