top of page

١٥ رجب ١٤٤٥ هـ

إيران وأمريكا: أعداء أم أصدقاء؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

طرفان ووسط

يختزل البعض تكييف العلاقة الأمريكية الإيرانية بأن الدولتين متفاهمتَان وبينهما تنسيق كامل ضد السنة في المنطقة، وأن ما يبدو من مواجهات وتهديدات وتراشق إعلامي كله عبارة عن تمثيلية لإخفاء هذه العلاقة وخداع أهل السنة. آخرون يختزلون بالاتجاه المعاكس ويصفون العلاقة بعداء شامل مبني على أساس مبدئي منطلق من عداء المسلم للكافر.


والاختزال لا يصلح في فهم السياسة والتاريخ، إذ لا بد في معرفة أي ظاهرة أو قضية أو تفسير حالة سياسية وتاريخية من معرفة التفاصيل ذات العلاقة. والتفاصيل في العلاقة الأمريكية الإيرانية تعني فهم عقلية رجال الحكم في إيران وخططهم وبرامجهم والمراحل التي مرت فيها إيران قبل وبعد الثورة وتعامل السلطة هناك مع الأحداث الكبرى في العالم وفي المنطقة. كما تعني كذلك فهم الاستراتيجية الأمريكية وآلية القرار في أمريكا.


سياسة إيران براجماتية، لا بل هي مبدئية!!!

في تتبع تاريخي لمسيرة الثورة في إيران والمراحل التي حصلت بعدها يمكن رصد ثلاث حقائق تجعل الفاصل بين المبدئية والبراجماتية غير موجود في السياسة الإيرانية، لأن ما يبدو براجماتيا هو في الأصل جزء من المنهجية الإيرانية المقبولة مبدئيا. 


الحقيقة الأولى: إيران دولة قومية (قطرية)

لا يوجد في الموروث الفقهي الشيعي ما يمكن أن يعتمد عليه في بناء الدولة ورسم العلاقات الدولية، وبناء عليه لا مفرّ من الاعتماد على مفهوم الدولة القومية (القطرية) الحديثة في إنشاء مؤسسات الدولة في إيران بعد الثورة. ورغم أهمية المذهب الشيعي الإثنا عشري في إنشاء إيران (الثورة)، فإنها في حقيقتها دولة قومية (قطرية) ترسم سياستها بالمنظار القومي، كدولة مستقلة ذات سيادة ولها مصالح أمنية قومية عليا. 


لا يعني هذا التقليل من أهمية المذهب ولا تساهل إيران في نشره وخدمته، بل إن إيران (الثورة) تمكنت من إحداث تكامل بين الدولة القومية والمذهب الشيعي بحيث أن كل منهما يخدم الآخر. ولهذا فإن تكليف حزب الله والميليشيات العراقية بالقتال في سوريا، ثم مشاركة الحرس الثوري في القتال في العراق هو خدمة للأمن القومي الإيراني وفي نفس الوقت دعم للمشروع المذهبي الشيعي. وإذا تعارض الإثنان فإن التجارب تثبت أن الأمن القومي مقدم على خدمة المذهب.


ومن نماذج تقديم البراجماتية على المبدئية وقوف إيران مع أرمينيا النصرانية ضد أذربيجان الشيعية لأن مصالحها القومية هي في إضعاف تركيا التي وقفت مع إذربيجان. ومنها الوقوف مع النظام السوري رغم أن الاثنا عشرية يكفرون النصيرية ورغم ما يزعمه النظام السوري من تطرف في القومية العربية. ومنها كذلك دعم حماس رغم التزامها السني الصارم ورفضها المطلق نشر التشيع في غزة. 


ومن النماذج كذلك التنسيق مع أمريكا لتسهيل مهمتها في غزو أفغانستان لهزيمة العدو المشترك "طالبان". فتحت إيران المجال الجوي الإيراني أكثر من مرة للطائرات والصواريخ الأمريكية القادمة من الخليج والبحر والمتجهة لأفغانستان كما أوعزت إلى حليفها "تحالف الشمال" أن يقف مع أمريكا ضد طالبان. 


الحقيقة الثانية: "ولاية الفقيه" ذاتها مشروع براجماتي 

الأساس الفكري الذي نشأت إيران (الثورة) عليه هو مبدأ ولاية الفقيه، وهو ذاته مشروع براجماتي استخدمه الخميني كوسيلة للتخلص من السلبية السياسية في الأدبيات الشيعية. ويغيب عن الكثير أن مرويات الفكر الإثنا عشري المنسوبة للأئمة ليس فيها من الطرح السياسي إلا انتظار المهدي، والاعتماد عليها يعني استحالة التحرك السياسي من أساسه.


والمحاولات الاجتهادية في تاريخ الشيعة لا تخلو من "طرح" مشاريع سياسية محدودة وحشرها في الفكر الشيعي لتعويض هذا النقص، لكنها لا تصمد أمام الزخم الهائل للمرويات التي تناقض ذلك. وهذا ينسحب على نفس نظرية ولاية الفقيه التي كانت موجودة قبل الخميني، ولم تترجم إلى مشروع عملي لنفس السبب، حتى جاء الخميني فحولها من طرح فكري إلى برنامج عملي. 


لماذا نجح الخميني رغم فشل من قبله في نفس الطرح؟ نجح  الخميني لأنه استغل الظروف المواتية واحتقان الشعب ضد الشاه، فكان طرحه لها براجماتيا واقعيا وليس طرحا نظريا مصادما للمرويات. هذا الدور البراجماتي البنيوي لولاية الفقيه في تأسيس إيران (الثورة)، جعل البراجماتية والمبدئية متداخلتان بالضرورة.


الحقيقة الثالثة: التقية بوابة نفسية واسعة للبراجماتية 

رغم الخلاف على مفهوم التقية لا ينكر أحد من الشيعة أن التقية ركن من أركان التشيع، وفيها جانب براجماتي كبير. وقد يُعترض بأن الشيعة صارت لهم دولة وقوة، فهل بقى للتقية هذا الدور في إفساح المجال للبراجماتية؟ 


يجاب على هذا الاعتراض بنقطتين، أولاً أن إيران لا تتعامل مع وضعها الداخلي فقط بل تتعامل مع توازنات إقليمية وعالمية تلعب فيها التقية دورا كبيرا. ثانياً تربية الشيعي على مبدأ التقية يضفي عليه حالة نفسية شاملة، تجعله -فردا كان أو جماعة أو دولة أكثر استعداداً للبراجماتية ممن لا يؤمن بها. 


هذا الاستحضار للتقية يتحول إلى منصة نفسية للقرار البراجماتي، ومن ثم قبوله ضميرياً وتحويله إلى قرار مبدئي. وهكذا تصبح التقية الدينية آلية لـ"أدلجة" المصالح والقرارات التي في أصلها مخالفة للمبادئ، ومن هنا تتداخل الأيديولوجيا والمصالح بطريقة متشابكة.


إيران ليست استثناء

الأمثلة في تداخل المبدئية مع البراغماتية تتكرر في التاريخ، وربما يكون أكثرها وضوحا ما حصل في الحرب العالمية الثانية حين كاد الاتحاد السوفياتي أن ينهار أمام الزحف الألماني ففزع الغرب بحملة واسعة لدعمه بالطائرات والدبابات والذخيرة بل وخسر من أجل ذلك عددا كبيرا من الآليات والسفن والبشر. هذا مع أن الاتحاد السوفياتي كان محكوماً بالشيوعية الستالينية المتطرفة وفي عداوة عقائدية شاملة وشرسة مع الغرب الرأسمالي. 


قدّر الغرب وقتها أن هزيمة ستالين ستجعل روسيا ومقدراتها العظيمة بيد هتلر مما يعني انتصاره الحتمي عليهم. ولهذا اتفق الإنجليز والأمريكان على دعم ستالين بدون تردد لأن ستالين يمكن احتوائه بينما لا يمكن احتواء هتلر لو احتل روسيا. وفي نفس الوقت وافق ستالين على تلقي الدعم الغربي بكل رحابة صدر رغم تطرفه الشيوعي.


كيف تطورت الاستراتيجية الإيرانية

لم يكن لدى قيادة إيران بعد الثورة نفس الوضوح الذي استقرت عليه لاحقا، بل إن إيران مرت بسلسلة من التجاذبات بين المبدئية والبراجماتية انتهت برسم استراتيجية وازنت بشكل واضح بين المبدئية والبراجماتية تبعاً للحقائق المذكورة أعلاه.


حين انطلقت الثورة الإيرانية بالغت في مراحلها الأولى في المبدئية وتعاملت مع النفوذ الأمريكي وتوابعه في المنطقة تعامل ردّ الفعل المستعجل بالتحدي والمواجهة الشاملة. وبعد أن تجاوزت إيران مرحلة الحرب مع العراق وتسلّم هاشمي رفسنجاني رئاسة الدولة قرّر وضع استراتيجية قائمة على فهم شامل لطريقة التفكير الأمريكية وآلية النفوذ الأمريكي، ونقاط الضعف فيها، ومعرفة الخريطة الديموغرافية والمذهبية في المنطقة . 


وإثر ذلك، رسمت إيران استراتيجية قائمة على الأركان التالية:


  • إيقاف الصِدام الثوري مع حكومات المنطقة التابعة للنفوذ الأمريكي، ومجاملتهم قدر الإمكان من أجل الوصول للأقليات الشيعية، حتى يمكن استغلالها دون محاذير.

  • التظاهر باحترام المذهب السني في الطرح السياسي والإعلامي، وإقناع الأغلبية السنية أن إيران تحمل همّ الإسلام عمومًا، وليس همّ المذهب الشيعي فقط.

  • بذل أقصى الجهود للتطوير العسكري بكل أنواع السلاح والتدريب وكفاءة القوات المسلحة، والسعي للاستقلال التقني في الصناعة النووية والصواريخ والحواسب والإنترنت والاتصالات.

  • استغلال الفوضى في لبنان لصناعة قوة موالية لإيران (حزب الله) تكون وسيلة لابتزاز أمريكا من خلال إزعاج ربيبتها إسرائيل.

  • توثيق العلاقة مع روسيا والصين، أولًا: من أجل الحصول على السلاح المتطور والتقنية النووية، وثانيًا: من أجل أن تقف معها ضد أي قرار أممي تسعى له أمريكا.

  • السيطرة على القوى المعارضة لصدّام في العراق، وتهيئتها كأداة استدراج لأمريكا لإزاحة صدام، الذي يعتبر من أكبر العقبات أمام نجاح الاستراتيجية الإيرانية.

  • توثيق وتوسيع العلاقة مع النظام السوري من أجل تسهيل الوصول للبنان وكذلك من أجل استكمال الهلال الشيعي بعد السيطرة على العراق.

  • قرار بالتعامل مع الأحداث القادمة في المنطقة بطريقة براجماتية، حتى يمكن خداع أمريكا وتحويلها إلى خادمٍ للمشروع الإيراني. وقد تحقق ذلك فعلا في أزمة احتلال الكويت وأحداث سبتمبر وغزو أمريكا لأَفغانستان وغَزو العراق وما بعده.

  • إيجاد نفوذ في اليمن بجماعة على غرار حزب الله اللبناني (الحوثيون) كذراع إضافي في استكمال النفوذ على كامل الجزيرة العربية.

  • توسيع النفوذ البحري في البحر الأحمر، وباب المندب، والبحر العربي، بعد مجموعة اتفاقيات وحقوق رسوّ المراكب وقواعد بحرية، في أريتريا وجيبوتي وجزر القمر، فضلا عن توسيع القدرات العسكرية البحرية.

  • استغلال خذلان العرب للمقاومة الفلسطينية وتحديدا حماس والجهاد الإسلامي، ودعمها بالمال والسلاح والتقنية والتدريب، بهدف إكمال التوازن الإقليمي مع النفوذ الأمريكي والإِسرائيلي في المنطقة.


حصيلة الاستراتيجية الإيرانية تعكس التداخل بين البراجماتية والمبدئية


حققت إيران معظم ما كانت تصبو إليه من هذه الاستراتيجية:


في الجانب الدفاعي، تمكنت إيران من بناء جيش قوي متكامل عددًا وعدة وعتاداً وتدريبًا مؤسساً على فهم التوازن في المنطقة. ويقصد بفهم التوازن إدراك إيران أنها لن تهزم أمريكا، ولهذا رسمت خطتها في التعامل معها على أساس الردع، وذلك بتخويف أمريكا أنها تستطيع تدمير مصالحها في المنطقة في أي لحظة تتعرض لهجوم أمريكي.


في التقنية، نجحت إيران في تطوير الصواريخ والحواسيب وتقنية التجسس الإلكتروني، وقطعت شوطا كبيراً في برنامجها النووي.


في الاختراق الإقليمي تمكنت إيران من خداع حكومات المنطقة، والوصول للأقليات الشيعية بكفاءة، وجعلت التيارات المؤيدة لها الأقوى في هذه الأقليات، مع توجيهها بعدم التحرك إلا عند الحاجة.


في لبنان، كان مشروع حزب الله من أنجح مشاريع التنظيمات المتطورة حزبيًّا وحركيًّا واجتماعيًّا، وقد كسب الحزب سمعة قوية حتى عند السنة العرب لولا أن فضحته الثورة السورية والصدام مع الجهاد السني.


في سوريا، نجحت إيران في ربط النظام السوري معها بعلاقة مصيرية، رغم الفرق الكبير بين النظامين والخلاف المذهبي والتوجه القومي العروبي المزعوم للنظام السوري.


في العراق، نجحت إيران في استدراج أمريكا لإسقاط صدّام، بدماء الأمريكان و بأموال الحكومات الخليجية التابعة لأمريكا. ثم بنفس السياسة الهادئة نجحت في استخدام المقاومة العراقية لإخراج الأمريكان وفي نفس الوقت استخدام الأمريكان للقضاء على المقاومة العراقية. وهكذا ورثت السلطة كاملة في العراق على حساب أمريكا وحلفائها رغم أنوفهم.


في اليمن، نجحت إيران في توسيع نفوذ الحوثيين، فتحولوا من حركة هامشية، إلى قوة تسيطر على نصف اليمن وتهدد السعودية والإمارات وجاهزة للتحرك إثناء الاجتياح عند اللزوم. 


في البحر الأحمر وباب المندب، حققت إيران نجاحًا جزئيًّا في الوجود البحري، وذلك بسبب المنافسة الشرسة من قبل أمريكا وإسرائيل وفرنسا. هذا فضلا عن سيطرة الحوثيين على باب المندب والسواحل القريبة منه.


الموقف من الربيع العربي يكشف التجاذب بين المبدئية والبراجماتية

كانت قد اجتمعت لدى إيران  حصيلة جيدة من الدروس في التعامل مع الشعوب العربية والتوازنات العالمية وخاصة النفوذ الأمريكي قبل الربيع العربي من خلال تجربتها في العراق. وحين اندلع الربيع العربي قررت فورا استغلال فرصة الفوضى في اليمن وضعف الحكم المركزي في سوريا و غباء وعمالة الحكومات السنية في الخليج والأردن. 


وحين وجدت إيران نفسها مضطرة لأن تختار بين الطائفية المتطرفة ومجاملة السنة في العراق وسوريا واليمن فضلت الطائفية وخسرت كل ما حازته سابقا من تعاطف جزء كبير من أهل السنة العرب. وموقف إيران هنا يجسد التشابك بين المبدئية والبراغماتية، فهو موقف مبدئي في دعم التطرف الشيعي، ومَوقف براغماتي من خلال استثمار عدم اكتراث الحكومات العربية بمعاناة أهل السنة، وما دامت الشعوب السنية مغلوب على أمرها فالبراغماتيّة تقتضي تفضيل نشر التشيع بالقوة على مجاملة الشعوب السنية.


الأعجب من ذلك أن الغرب لم يكن رافضا للتدخل الإيراني في سوريا لأنه اعتبر خطر الجهاد السني على المنظومة الغربية أخطر من المشروع الإيراني، وهو نفس ما حصل في تقدير الغرب للوضع بين ستالين وهتلر. وطوال وجود القوى التابعة لإيران هناك لم تتعرض لضربات من أمريكا أو من إسرائيل إلا عندما تحصل تجاوزات تعتبر بداية خطر على المنظومة الغربية. 


الاستنتاج

لهذه الأسباب لا يبقى معنى للسؤال ما دام تحقيق المصالح ذاته جزءا من المبدأ، وما دامت المرجعية النصية تسمح لمفهوم المصلحة بأن يتمدّد بلا حدود. وبناء على هذا التحليل فإن دور الهوية والقومية وطريقة الحوزة الإيرانية في توسيع هامش المذهب لصالح الدولة أقوى من المذهب نفسه. وتبعا لذلك يستطيع المراقب المدرك لهذا التداخل بين المبدئية والبراجماتية أن يتوقع -في العموم- ما تنوي إيران الإقدام عليه تجاه أي أزمة من الأزمات.


هل تنجح موازنة المبادئ والمصالح على المدى البعيد

نجحت الاستراتيجية الإيرانية في إجادة الموازنة بين التحرك وضبط النفس، وحققت بذلك السيطرة على أربع عواصم عربية، و تحاشت حتى الآن المواجهة الشاملة مع أمريكا وإسرائيل فهل سيدوم هذا الأمر؟ 


هذا الإنجاز الإيراني صاحَبه توسع أكثر من اللازم في النفوذ ومنافسة مستفزة للهيمنة الأمريكية في المنطقة.  ورغم الدهاء والحذر الذي صاحب تنفيذ هذه الاستراتيجية فإنها فتحت، بسبب توسعها الكبير، نوافذ كثيرة للمواجهة مع الغرب، يصعب على إيران والغرب إغلاقها جميعا. 


التبادل بين المبدئية والبراغماتية التي أتقنته إيران حتى الآن سيصل إلى مرحلة ارتباك يجعلها غير قادرة على منع مواجهة حتمية مع الغرب تبدأ بنافذة واحدة ثم يستحيل احتوائها. ومن خلال النظرة الثاقبة للمشهد الحالي يكاد المراقب أن يستشرف هذا الصدام الشامل قريبا والله أعلم 



bottom of page