top of page

٥ رجب ١٤٤٤ هـ

الصحوة: تاريخها، حقيقتها، تقويمها، آثارها

بقلم الدكتور سعد الفقيه

المصطلح

بدأ مصطلح "الصحوة" يتردد بشكل عفوي في كتابات ونقاشات نهاية سبعينيات القرن الماضي بمدلول فضفاض يدور حول نزعة جديدة للاهتمام بالدين وعيا وسلوكا واهتماما.  ومع الوقت تبلور المقصود بهذا المصطلح وصار يعني التوجّه المتسارع عند بعض الشعوب العربية بالوعي بالهوية والانتماء للإسلام والمسؤولية تجاه قضايا المسلمين وفهم شُمولي للإسلام عقيدة وعبادة وسلوكا على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والعالم.  والإشارة الوحيدة لبداية استخدام هذا المصطلح هو ما ذكره الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في مقابلة تلفزيونية أنه من أوائل من استخدمه.


حقيقتها:

الصحوة ليست حزبًا ولا تيارًا ولا تنظيمًا، لأن المحسوبين عليها -رموزاً وجمهوراً- لا يقتصرون على جهة معينة بل الطيف الشعبي كله، والأدق في وصفها أنها ظاهرة عمّت أكثر من مجتمع في أكثر من دولة. وشكّل الشباب الجزء الأعظم من مسيرة الصحوة مع أن كثيرا من رموزها الذين كان لهم دور في بعثها من العلماء والمثقفين من كبار السن. ولا يمكن عزو ما حدث للصحوة من ازدهار أو انحسار إلى شخص ما أو جهة معيّنة، بل هي ظاهرة اجتماعية تاريخيّة تأثرت بالأحداث والأجواء المحيطة.


منطقة الصحوة؛

انتشرت الصحوة في معظم العالم العربي لكن كان أسرع انتشار لها في بلاد الحرمين والكويت واليمن ومصر والأردن وفلسطين. أما بقية الدول العربية فقد كان الانتشار بطيئا أو ربما أوقفه تسلط حكومات معادية للإسلام خاصة في سوريا وتونس.


تاريخها:

كان انطلاق الصحوة في نهاية الستينات الميلادية من القرن الماضي، ثم نمت بشكل بطيء في السبعينات، وتسارع نموها بشكل سريع في الثمانينات، حتى اصطدمت بأزمة الخليج في ١٩٩٠ ثم بدأت في الانحسار فترة التسعينات. لكن الصحوة لها جذور تاريخية هيأت لانطلاقها يمكن تتبعها منذ انحسار نفوذ الدولة العثمانية في المراحل التالية:


المرحلة الأولى: حين انحسر نفوذ الدولة العثمانية في القرون الأخيرة وقوي شأن الاستعمار انطلقت حركات كثيرة لتعويض غياب المظلة الإسلامية بجهد دعوي أو اجتماعي أو قتالي ترك أثرا مهما في وجدان الناس. ومن هذه الحركات الوهابية في نجد والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والجهاد في المغرب والجزائر والجمعيات والمؤسسات كجمعية العلماء المسلمين لابن باديس وأمثالها. ومع أن هذه الحركات انتهت سياسيا فقد تركت أثرا تربويا واجتماعيا وتغلغلت في وجدان الدول التي تشكلت فيها.


المرحلة الثانية حين اجتاح الاستعمار العالم العربي في بداية القرن العشرين وانهارت الدولة العثمانية فكان هذا التحدي بمثابة تذكير للعرب والمسلمين بهويتهم الإسلامية ولهذا كان للعامل الديني دور كبير في إخراج المستعمرين.


واستجابة لهذه الرغبة في العودة للهوية ظهر خلال هذه المرحلة، وتحديدا في النصف الأول من القرن العشرين، بعض التيارات الإسلامية التي تتبنى عودة الهوية الإسلامية والمسؤولية تجاه المسلمين وتمكين الدين. كان في  مقدمة هذه التيارات جماعة الإخوان المسلمين في مصر وصار لها شأن في الأربعينات الميلادية ثم اغتِيل مؤسسها وتعرّضت للقمع على يد جمال عبد الناصر فأُبعدت عن المشهد بقوة السلطة لكن بقي أثرها الفكري والتربوي من خلال أدبياتها ورجالها الذين انتشروا في العالم العربي من الخليج إلى المغرب.


المرحلة الثالثة: تشكُّل تيارات جديدة بديلة عن الطرح الديني بدأت بالماركسية ثم بالقومية "المتمركسة" ثم الوطنية في بداية القرن العشرين وانتهت بالناصِرية والبعثية في الأربعينات والخمسينات. ولأن هذه التيارات كانت مخدومة سياسيا -وربما عالميا- فقد استولت على عقول فئة كبيرة من الشباب ومكَّنت السلطات التي تبنتها من إبعاد المجتمعات عن الدين. لكن المشكلة التي واجَهت هذه التيارات أنها وعاء بلا محتوى فاضطرت لتبني العلمانية مرجعا والاشتراكية اقتصادا وهذا ما أدى إلى أن زهوتها الأولى تنحسر بعد أن تبين أن محتواها غير مفهوم ولا مستوعب لدى كثير ممن جذبتهم العاطفة إليها إضافة لكونها مصادمة لوُجدان الشعوب مما كان أحد الأسباب للعودة للدين.


المرحلة الرابعة بدأت حين تبنَّى الملك فيصل في الستينات موقفًا سياسيًا ضد عبد الناصر، ودعم نشر كتب الإخوان واستضاف اللاجئين منهم ومكنهم من بعض المواقع المؤثرة تربويا. ولم يكن مسموحا للإخوان اللاجئين في المملكة بممارسة نشاطهم الإخواني لكن وجودهم أدى لنتيجة مثيرة وهي تكامل الطرح الشمولي الواقعي الواعي الذي أتوا به مع توجه نقاء العقيدة والحرص على العلم الشرعي الموجود في بلاد الحرمين. هذا التكامل ساهم في إيجاد جيل كامل كان له أثر كبير في بعث الصحوة بعد ذلك.


المرحلة الخامسة حين توفي عبد الناصر، وأُفرِج عن المعتقلين الإسلاميين في مصر وكان منهم قيادات وأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين وازدهر النشاط الإسلامي في مصر بشكل أوسع مما كان عليه قبل قمع الإخوان، وتجاوز حركة الإخوان إلى تيارات أخرى ورموز وقيادات. وخلال نفس الفترة كان النشاط الإسلامي الواعي يتنامى في السعودية والخليج للأسباب التي ذكرت أعلاه حتى جاءت المرحلة السادسة التي كانت الفترة الذهبية للصحوة.


المرحلة السادسة: والتي بدأت في نهاية السبعينات  وميدان انطلاقها في السعودية وكانت العصر الذهبي للصحوة وذلك لثلاث أسباب:


(١) حادثة دخول جهيمان الحرم المكي التي أدّت إلى أن يوقف النظام السعودي "عجلة التغريب" التي كانت قد تسارعت وقتها بطريقة استفزت الشعب وساهمت في تشجيع الغاضبين منها على الالتحاق بجهيمان. بعد الحادثة أعطى النظام الإسلاميين مساحة واسعة للنشاط منعا لتكرار مثل هذه الحادثة وامتصاصاً للغضب الذي تفجر بسبب تسارع التغريب.


(٢) دخول السوفييت في أفغانستان، والذي أرادت أمريكا فيه من السعودية دعم المجاهدين الأفغان مستفيدة من قيادتها للعالم الإسلامي نكاية بالسوفيت. وكان من الآثار الجانبية القوية لهذا الدعم توجه كثير من السعوديين وغيرهم من العرب للجهاد في أفغانستان بعلم وتشجيع النظام السعودي. وكان الجو وقتها مفعماً بدعم الجهاد والحديث عن بطولات  المجاهدين الأفغان في الإعلام والمجالس والمدارس والجامعات.


(٣) الثورة الإيرانية وصعود الخميني، حيث كان انتصار الخميني بشخصيته الجذابة ومظهره المتقشف المتدين وبرنامجه الجاد في السلطة كنموذج للإسلام الشيعي محرجا للنظام السعودي،  فكان لا بد من أن يقدم النظام السعودي بصفته حاكما لبلاد الحرمين نموذجا مكافئا. وبما أن النظام لا يستطيع أن يتقشف أو أن يخرج من عباءة أمريكا كان الحل إطلاق العنان للنشاطات الإسلامية على مستوى المجتمع حتى تعكس الصورة المطلوبة ويمتص النظام تطلع المجتمع لتغيير ديني على مستوى الدولة.


هذه العوامل الثلاث كانت سببا في أن تتوسع الصحوة كمَّا ونوعا وتأثيرا خلال فترة الثمانينات الميلادية سواء في السعودية أو الخليج ومصر أو غيرها من الدول العربية.


المرحلة السابعة هي انحسار الصحوة بعد أزمة الخليج. وسبب انحسارها هو قناعة النظام السعودي أن الوعي بالهوية والانتماء والشعور بالمسؤولية كانت سببا في موجة الرفض لاستضافة الحكومة السعودية نصف مليون جندي لمقاتلة الجيش العراقي. ولذلك قرر النظام السعودي  الاقفال المتأني لكل الهوامش التي فتحها للنشاطات الصحوية بشكل تدريجي وإبعاد المؤثرين من قيادات الصحوة عن المنصات المؤثرة سواء في المساجد ومراكز الدعوة أو في التعليم أو في الإعلام.  وتعاملت معظم الدول الأخرى مع تيار الصحوة بنفس المعاملة وأدى تعاملها إلى نفس  النتيجة.


تفرعات الصحوة

كان تيار الصحوة تيارا واحد متناغما منسجما إلى حد كبير رغم التكتلات الحركية داخله، لكن بعد المواجهة مع النظام السعودي تفرَّق إلى التيارات التالية:

  • تيار جهادي يتبنى الصدام مع النظام العالمي وبالضَرورة مع النظام السعودي وهو تيار القاعدة وابن لادن.

  • تيار إسلامي سِلمي مهتم بالعمل السياسي تمثل في تيارات المعارضة الإسلامية في بلاد الحرمين.

  • تيار سلمي غير مهتم بالعمل السياسي وهو مجموع نشاطات العلماء المستقلين أو العاملين في إطار السلطة دون تأييد لها.

  • تيار "جامي" موالي موالاة مطلقة للنظام تبنته السلطات وجَنّدته ضد التيار الجهادي والإسلامي المهتم بالعمل السياسي.

من له الفضل في انطلاق وازدهار الصحوة؟

كانت الظروف التي ذُكرت أعلاه تسهيلا لانبعاث الصحوة وتوفير الحاضنة لها، أما انتعاشها وتمددها فربّما يعزى إلى مجموعة تيارات وعدد من الرموز الذين استثمروا هذه الظروف فكانوا سببا في تكاثر كوادرها وانتشارها في كل شرائح المجتمع.


على مستوى التيارات:

ساهم الإخوان المسلمون في انتعاش الصحوة سواء في بث مفهوم الانتماء و الشمولية وعالمية الإسلام والمسؤولية تجاه المسلمين أو في بث كوادر ضخمة تخدم هذه المفاهيم. أما الحركة السرورية فهم وإن كانوا يُعتبرون نتاجا للصحوة في مراحلها الأولى لكن كان لهم دور كبير في انتشارها وازدهارها خاصة في الثمانينات الميلادية.


على مستوى الشخصيات الوعظية

كان لمحاضرات وخطب الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ حسن أيوب والشيخ أحمد القطان رحمهم الله جميعا وغيرهم من الشخصيات الوعظية في ذلك الوقت دور كبير في التأثير على الشباب تربَويّا وإيمانيّا. ولأن تأثير الوعظ يأتي بالكلام المسموع أقوى من الكلام المكتوب فقد كان لمسجّل الكاسيت دور مهم في نشر هذه المحاضرات والخطب. وفي نهاية الثمانينات انتشرت محاضرات وخطب لشخصيات من جيل لاحق على رأسهم الشيخ عايض القرني وسعيد بن مسفر وناصر العمر وآخرون.


على مستوى الشخصيات الفكرية

في موازاة انتشار الكاسيت انتشرت كتابات ومؤلفات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وحسن البنا وأبو الحسن الندوي وفتحي يكن التي كانت ترسخ مفاهيم الإسلام الكبرى والتأكيد على الهوية والانتماء والمسؤولية وتحكيم الشرع. ثم في نهاية الثمانينات انتشرت تسجيلات الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عوض القرني والشيخ سعيد الغامدي والشيخ عبد المجيد الزنداني والشيخ عبد الله عزام.


رموز تاريخية وكتب التراث

خلال فترة الصحوة تنامى الاهتِمام بآثار علماء الإسلام الكبار مثل الأئمة الأربعة وابن قدامة والنووي وابن تيمية وابن حجر والعز بن عبد السلام والشوكاني وغيرهم، وكان هناك تركيز على العلماء الذين وقفوا في وجه الحكام مثل ابن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام. وتزامن ذلك مع العودة لكتبهم وتزايد الرغبة في نشر العلم الشرعي بكافة فروعه حتى أصبح حضور حلقات المشايخ يدل على الوجاهة والمكانة الاجتماعية.


محاسن الصحوة وفضلها على المجتمعات

الوعي بالانتماء للإسلام والهويّة الدينية، حيث تمكنت الصحوة من هزيمة دعاة الوطنية والقومية والدعوات الأخرى غير الإسلامية رغم الدعم الحكومي والعالمي لهم. وقد أدى تنامي الشعور بالهوية والانتماء تلقائيا إلى الشعور بعالمية الإسلام والثقة بالنفس والعزة والكرامة والفخر بإنجازات المسلمين التاريخية.


الشعور بالمسؤولية: والذي كان على مستويين الأول تجاه بقية المسلمين ودعمهم ماديا ومعنويا  أو بالسلاح والجهاد، والمستوى الثاني المسؤولية في نشر الإسلام بين غير المسلمين في العالم كله. وكان من نتائج هذا الشعور المساهمة في العمل الخيري في أفريقيا وآسيا وبناء المساجد في أوربا وأمريكا، وبلغت هذه المساهمة ذروتها من خلال المشاركة في الجهاد الأفغاني.


الشعور بشمولية الإسلام: حيث تمكنت الصحوة من استبدال الإسلام التقليدي المبني على مجموعة من العبادات والعادات الموروثة إلى منهج شامل للحياة كلها من الطهارة والصلاة إلى الحكم والسياسة مرورا بالأخلاق والاقتصاد والعلم والعمل.


الانضباط السلوكي بقيم وأخلاق الإسلام، سواء في التعامل مع المقربين كالوالدين والرحم والجار أو في جو الدراسة والعمل أو حتى عند السفر للخارج والتعامل مع ثقافات الشعوب الأخرى.


الوعي بقضايا غير تقليدية مثل الاقتصاد الإسلامي، والبنوك الإسلامية التي توسع الاهتمام بها سواء على المستوى النظري في تنزيل مبادئ الإسلام الاقتصادية على تحديات الاقتصاد الحديث، أو على المستوى العملي في إنشاء البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية بناء على ذلك التنظير.


احترام العلماء والاهتمام بالعلم الشرعيّ،الذي تحوَّل لظاهرة عامة بسبب انعدام الفروق بين عالم السلطة والعالم المستقل ، مما أدّى لحالة من الانسجام بين الرموز الدينية بكافة أطيافهم والسلطة السياسية.


المآخذ والإشكالات على الصحوة

القولبة والتقليد: رغم الشعور بالعالمية والمسؤولية فقد كان الغالب على جمهور الصحوة تقليد أساتذتهم ومشايخهم والجمود في قالب صلب بدلا من المرونة في اجتهاد مبني على المقاصد الشرعية الواسعة والمتكاملة. وساعد على ذلك جمود التيارات الحركية التي سعت لإلزام كوادرها بنظامها التربوي الجامد بدلا من التدريب على منهجية متكاملة.


ضيق الأفق: من المفارقات التي لوحظت على شباب الصحوة أنهم رغم تربيتهم على شمولية الإسلام عبادة وسلوكا واقتصادا وسياسة الخ، ألا أنهم في الغالب يعيشون تجربتهم الشخصية أو تجربة أساتذتهم وينظرون للمكونات البشرية الأخرى والأحداث من خلال هذا الأفق الضيق. وكان لهذا النظر الضيق أثر في سرعة انحسار الصحوة بعد البطش بها من قبل السلطات.


التنميط والإقصاء: ويقصد به النزعة لتصنيف الآخرين أفرادا وجماعات وتيارات، إما تصنيفا من حيث التدين والخلق الإسلامي أو من حيث الانتماء الفكري والعقدي. وأدى هذا التنميط والإقصاء إلى تكتّلات سواءً داخل دوائر الصحوة أو ما بين الصحوة وفئات المجتمع الأخرى. وكان من الطبيعي أن يُضعف هذا الإقصاء الصحوة لأن كثيرا ممن كان يمكن احتوائهم فيها وجدوا أنفسهم مدفوعين خارجها في تكتلات منحرفة خُلقيا أو فكريا. وكان للتصنيف والتكتل داخل دوائر الصحوة ضد بعضهم البعض دور كذلك في إضعاف الصحوة أمام السلطات.


المبالغة في الشكليات والاهتمام بالوضع الاجتماعي: غلب على تيار الصحوة إعطاء أولوية لقضايا اجتماعية وتربوية مثل علاقة المرأة بالرجل والحجاب والغناء والموسيقى على حساب القضايا السياسية الكبرى مثل الشورى والمحاسبة والشفافية والبطالة والفقر والجريمة والخدمات. بل إن التوجه في هذا القضايا كان في تفويض كل تلك الأمور للسلطة فهي أحكم وأعلم مخالفين بذلك مزاعم الشمولية التي تربوا عليها.


غياب التفكير الاستراتيجي: لم يكن لدى مكونات الصحوة أفرادا وجماعات رؤية استراتيجية في التخطيط للمستقبل، وكان الغالب عليهم تكرار ما تعلموه من الذين قبلهم. والأسوأ من ذلك هو غياب الثقافة الاستراتيجية بالكامل حيث لم يكن هناك إدراك لأهمية التخطيط الاستراتيجي فضلا عن غياب الخطة. وكان هذا عاملا آخر في تمكُّن الحكومات من قمع الصحوة وتشتيتها مما ادى إلى كمونها المؤقت وتفرقها لعدة تيارات تنافر بعضها.


الاستعجال في الترميز. في فترة صعود الصحوة كان كل من يعتلي المنبر ويتكلم كلاما جذابا أو يصيغ بقلمه كتابة مقنعة يصبح رمزا له شأن و حوله جمهور كبير. والسبب هو عدم وجود الابتلاءات والتحديات التي تكشف الرموز وخاصة قمع السلطة. وحين اصطدمت السلطة مع الصحوة سقط عدد من الرموز الذين كان يشار لهم بالبنان ويحضر محاضراتهم عشرات الآلاف قبل ذلك.


تحاشي العمل السياسي: لم يكن الابتعاد عن العمل السياسي فقط لمجرد خطأ في الأولويات بل كان هناك توجه مقصود لتحاشي العمل السياسي والابتعاد عن كل ما يمت له بصلة، وذلك بقناعة راسخة أن التورط فيه يضر ولا ينفع. وإن كان هناك ما يجبرهم على تدخل أو ممارسة نشاط فيه نَفَسٌ سياسي فلا بد أن يتم من خلال الكيان الموجود بكل احترام لشرعيته وقنواته. فمثلا كان أقصى ما يمكن أن يعمله  الحريصون حين الاعتراض على ظاهرة سيئة هو زيارة الشيخ ابن باز رحمه الله وإيصال المعلومة له عسى ولعل أن يوصلها لـ "ولاة الأمر". ولا ينفي ذلك أن هناك شيء من الاهتمام التثقيفي بالأوضاع السياسية والأحداث النازلة.


التحزّب. ظهرت في وقت الصحوة عدة تكتلات بعضها محسوب على الإخوان المسلمين وأخرى محسوبة على ما يسمى بالسروريين وغيرهم دون أسماء. ورغم تشابه دعوة الجميع عقيدة وفقها وممارسة فقد كان هناك نزعة للتحزب داخل هذه التكتلات والتوجس من التكتلات الأخرى بل ربما التنافس غير الشريف بعض الأحيان على كسب الأتباع. وبقي هذا الوضع إلى أن اصطدمت الصحوة مع السلطة فاضطرت هذه التكتلات أن تخفف من تحزّبها وأن تقترب من بعضها لأنها أدركت أن الخطر عليها مشترك.


تركة الصحوة

نعم انحسرت الصحوة كظاهرة لكن بقي لها إرث ضخم سواء في تشكيل عقول الناس أو التأثير في الأحداث أو في طبيعة التعامل معها أو في صناعة تيارات أثرت محليا وعالميا:


كوادر متميزة

أنتجت الصحوة عددا كبيرا من الرموز المؤثرة فكريا وتربويا بل وتتلمذ على يد هؤلاء جيل آخر من الرموز. كما أنتجت الصحوة جمهورا هائلا من الملتزمين دينيا والمنضَبطين سلوكيا والراقين فكريا والناجحين عمليا و ساهم هؤلاء الشباب كذلك في الجيل التالي لهم فمضى مسار الصحوة التربوي في قلوب الكثير رغم انحسارها كظاهرة.


صدّ موجة التغريب:

تعرض المجتمع العربي لموجة تغريب عنيفة جدا في أيام الاستعمار ثم خدمت الحكومات العميلة موجة التغريب   من الاستعمار نفسه، ورغم أن بلاد الحرمين لم تتعرض للاستعمار فقد اجتاحتها موجة التغريب خاصة في الستينات والسبعينات. ولولا الصحوة  -والله أعلم- لكان حال المجتمعات أقرب لحال المجتمعات الغربية في الإباحية وإبعاد الدين عن الحياة.


جديّة الشعب وتقليل التفاهة

ساهمت الصحوة من خلال شحن معاني الانتماء والهوية والمسؤولية في تربية عدة أجيال على الجديّة. وفي فترتها الذهبية كانت الجديّة هي الطابع الغالب في المجتمع رغم الجهد الضخم الذي بُذل من قبل السلطات لتغليب التفاهة على الجديّة.


رفع مستوى الوعي السياسي بعين إسلامية

ساهمت الصحوة في تبني قضايا المسلمين في العالم وهذا لا شك يتبعه اهتمام طبيعي بالسياسة العالمية. ورغم تحاشي تيار الصحوة في فترتها الذهبية الدخول في غمار السياسة الداخلية فإن طرحهم الشمولي والشعور بالهوية والمسؤولية جَعلهم مهيئين نظريا للانغماس في السياسة بحكم الضرورة وهذا ما حصل حين قرر النظام السعودي قمع تيار الصحوة، كانت تركيبتهم التربوية مُهيأة  نسبيا للتعامل مع هذا التحدي فبرز من ذلك نشاطات سياسية متعددة سواءً على المستوى السلمي أو المسلح.


زيادة الاهتمام بطلب العلم.

كان الاهتمام بالعلم الشرعي مقصورا على العلماء المتفرغين للعلم الشرعي لكن بعد انتعاش الصحوة انتشرت ثقافة طلب العلم من قبل كل التخصصات، ولوحظ أن من بين المهتمين بطلب العلم الشرعي الطبيب والمهندس والطيار ومدرس الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتاجر والمزارع. وصار من الجاه والفخر احتفاظ الإنسان بمكتبة فيها أمهات العلوم الشرعية.


التيار الجهادي

لم يكن التيار الجهادي نتاجا مباشرا للصحوة لكنه من آثارها وتركتها. حين سمحت الحكومة السعودية لشباب الصحوة بالجهاد في أفغانستان كان المبرر الشرعي هو إخراج محتل كافر من بلاد المسلمين. لم يخطر في بال النظام السعودي أن هذا المنطق سيتم تطبيقه على بلاد الحرمين بعد جلب نصف مليون جندي أمريكي وانتشارهم في السعودية. اعتبر شباب الجهاد ذلك احتلالا لبلاد الحرمين ورأوا أنفسهم متناقضين إن لم يعاملوا هذا الوجود الأمريكي مثل معاملة الوجود السوفيتي في أفغانستان. بل إنهم اعتبروه أولى من الجهاد في أفغانستان لأن جزيرة العرب أعظم قدسية من أفغانستان بسبب الحرمين وبسبب ما جاء من أحاديث في تحريمها على غير المسلمين. ومن هنا فإن كل نشاطات التيارات الجهادية امتداد بشكل غير مباشر للصحوة.


ثورات الربيع العربي

من الأطروحات المبنية على فهم التاريخ والسيكولوجية المجتمعية أن الصحوة لها دور في تهيئة الشعوب للربيع العربي من خلال تقوية قيم الانتماء والمسؤولية والعزة والكرامة والمطالبة بالعدل والحرية.  صحيح أن هذا لا يمكن إثباته بشكل مباشر لكن معظم الثورات الكبرى في التاريخ التي قامت على هذه المعاني مثل الثورة الفرنسية والأمريكية والإيرانية كانت نتاج جهد فكري وتربوي أصَّل لهذه المعاني وسبق التحرك الجماهيري بعقود.


ماذا بعد الصحوة؟

تركت الصحوة هذه الآثار المنظورة، لكن طاقتها الكامنة في نفوس الشعوب أقوى بكثير من هذه الآثار المحدودة. وهناك مؤشرات قوية أن هذه الطاقة الكامنة ستظهر بشكل مفاجيء إما بأحداث محلية تمنع السلطات من قمع الشعوب أو من خلال تطورات عالمية تمنع النظام العالمي من فرض إرادته على شعوب المنطقة. وعندها -والله أعلم- ستُفاجئ شعوب المنطقة العالم بتمكين للإسلام وتحويلِه إلى قوة سياسية فاعلة تكون بمثابة حصاد متأخر لما زرعته الصحوة.

bottom of page