top of page

٢٧ رجب ١٤٤٤ هـ

المشروع الإسلامي بين الغلوّ والتمييع

بقلم الدكتور سعد الفقيه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:


يغلب على التيارات والجماعات المتصدِّية لخدمة الإسلام الميل لتَّوَجُّهَيْنِ كلاهما (كليهما) يناقض المنهجية النبوية:


  • إما تمييع الدين والتفريط في الثوابت المقطوعِ بها.

  • أو الغلو ومصادَمة الواقع وحرق المراحل: "فلا أرضًا قَطعوا ولا ظَهرًا أَبقوا".

فما السر في غلبة هذين التَوجُّهين على العمل الإسلامي؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من بيان حقيقة تجعل الإجابة بعدها تلقائية، وهي أن المنهجية النبوية تُفرّق بين أمرين:


الأول: الإيمان بالثوابت التي أوجبها الإسلام، والتسليم بها تسليمًا كاملًا من الناحية النظرية.

الثاني: التصدي عَمَلِيًّا لمهمة إعادة شأن الإسلام وهيمنتِه، وكيفية التفاعل مع المعطيات الواقعية من أجلِ ذلك.


الثوابت والقطعيات

يحدِّد الإسلام موقع المسلم بين البشر، وعلاقتَه بهم، ودورَه معهم، وواجبَه تجاههم، وكل ذلك في ضوء ثوابتَ لا يجوز التفريط فيها من ناحية الاعتقاد والتسليم، تدور في معظمها حول الآتي:


أولا: وضوح الهوية وحِدّة الانتماء للإسلام؛ فلا مجال لتمييع الهوية والانتماء، ولا وجودَ لمَساحة رمادية بين المسلم وغير المسلم، ولا وجودَ لضبابيّة بين الإسلام والكفر، وأينما توجَّهتَ في الكتاب والسنة وحوادث السيرة ومواقف الصحابة رضي الله عنهم؛ وجدتَ هذه الحقيقة ماثلةً أمامك.


ثانيا: المسلم مأمورٌ بالاستعلاء بدينه، لأنه وُفِّقَ للحقِّ المطلق، وهذا لا يعني الكِبرَ والخُيَلاء، بل يعني الفخرَ بالدين الذي هُدِيَ إليه، والشعورَ أنه محظوظ أنْ ميّزه الله فجعله من الذين عرفوا الطريق الصحيح الذي خُلِق من أجله البشر.


ثالثا: المسلم مكلَّف بمسؤولية تجاه العالم كله، وأن يسير على خُطى "وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين"، وهذا يعني وجوبَ إيصال رسالة محمد ﷺ إلى كل البشر، أولًا بالبلاغ، ثم ثانيًا بالهيمنة والسلطة.


رابعا: المسلم مأمورٌ بالانضباط الكامل بمرجعيَّة الكتاب والسنّة، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.

وهذه المرجعية لها مستويان؛ الأول: مستوى المنهجية، وهو مبادئ الدين وأصول الاستنباط، والذي لا يجوز التفريط ولا الخلاف فيه، والثاني: مستوى التفصيل الذي لا مَفرَّ من الاختلاف فيه لكن بشرط أن يكون داخلَ حدود المنهجية الثابتة.


التطبيق والواقعية

مواجهة الواقع المحلي والعالمي سواء على المستوى الفردي أو العمل الحركي الجماعي من الطبيعي أن تختلفَ عن الإيمان والتسليم العقَدي أو النظري. ومع ضخامة المهمة التي كُلِّفَ بها المسلم -فردًا كان أو جماعة- في التغيير على مستوى العالم؛ لا بد من أن يصطدِمَ بكثير من العقَبات والصعوبات التي تُلزِمه أن يكون تعامُلُه مع الواقع مختلفًا عن عُمقِ إيمانه العقدي بالثوابت والمسَلَّمات.


ما السبب في انزلاق التيّارات في الاتجاهين؟

إذا كانت المنهجية النبوية واضحةً في الموازنة بين التسليم الكامل بالثوابت وبين التطبيق الواقعي، وإذا كان هامش المناورَة في التطبيق محددًا في الشرع، فلماذا انزلق كثيرٌ من الرموز والجماعات والتيارات في التمييع أو الغلو؟


السبب هو تراكُم مجموعة من التحديات الهائلة في مواجهة المشروع الإسلامي في هذا الزمان، مع كونها لم تكن موجودةً حين كان للإسلام شأن أو على الأقل له سلطة ولو محدودة تعطيه هيبةً وكيانًا جَمَاعِيًّا.

ويمكن رصد أهم هذه التحديات في التالي:


أولا: قوة النظام العالمي واستقرار  الدولة القُطرِيّة.

يُصادِم المشروع الإسلامي قوةَ واستقرارَ النظام العالمي الذي أصبح هو المرجع في فهم توزيع البشر وهوياتهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم.

يبدأ هذا النظام بالمستوى الأول -وهو الدولة القطرية- التي هي أصل الانتماء حَالِيًّا، ثم المستوى الثاني: وهو هيمنة الغرب سِيَاسِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا وفكريًّا وتقنيًّا وَعَسْكَرِيًّا، ثم المستوى الثالث: وهو هيمنة أمريكا على الجميع.

هذا النظام -وخاصة المستوى الأول منه- استقر كواقع مفروض وتغَلغَلَ في وجدان الناس واعتقاداتهم مسلمِهِم وكافرِهِم.


ثانيا: تمكُّن الأنظمة الطاغوتية من العالم الإسلامي.

تتمتع الأنظمة الطاغوتيّة في العالم الإسلامي بقوة وتمكُّن واستقرار وتراكُم خبرة في السيطرة لأمدٍ طويل، حتى صارت كل القوى الصلبَة -المتمثِّلة في القوات المسلحة والأمن والمال والإعلام- بيدِها بشكل مطلق. ومن ثَم أصبحت إزالتُها -فيما يبدو- مستحيلة، بل حتى مُناكَفَتُها ضررٌ مطلق.


ثالثا: طول أمد مرجعية الفكر العلماني عَالَمِيًّا.

العلمانية هي المرجع في العالم كله منذ قرون سواء كان رَأْسِمَالِيًّا أو شُيُوعِيًّا أو حتى الدول ذات الشعوب المسلمة بما فيها السعودية.


هذا الفكر هو الأساس في التنظير السياسي والاقتصادي والقانوني وهو الأساس في التعليم والإعلام، وهذه الهيمنة للفكر العلماني وطول أمدها تجاوزَ علمنةَ السياسة والقانون إلى علمَنةِ الأخلاق، وعلمنةِ الأسرة، وعلمنةِ المعاملات، وعلمنة القيم، بل وعلمنة الدين نفسه!


رابعا: غياب المرجعية الإسلاميّة المستقلة.

غابتْ المرجعية الإسلامية بسبب "ترسيم" العلماء في البلاد الإسلامية عمومًا والعربية خصوصًا، أي: تحويلهم إلى علماء رسميين؛ فالسلطة هي التي تُعيِّن العلماء في مناصبهم مهما كان شأن المنصب، والسلطة هي مصدر رواتبهم، ومن ثَم يعتمدون عليها كُلِّيًّا في رزقهم.


وقبل أن تبتلعَ الدولة الحديثة مؤسسةَ العلماء كان كل العلماء تقريبًا يعتمدون على الأوقاف، ولم يعُد لهذا الأمر وجودٌ الآن، وحتى مَن يريد الاستقلال من العلماء يجد نفسه محاصَرًا، ليس في رزقه فقط، بل في كل حياته، وربما ينتهي به المطاف إلى السجن أو الإقامة الجبرية أو المنع من أي نشاط.


التوجه لتمييع الدين.. كيف حصل؟

بالغتْ جماعاتٌ وتياراتٌ كثيرة في الواقعية، وقدّمتْ من أجل ذلك تنازلاتٍ مبدئية أدت إلى التفريط في الثوابت، ووصلتْ في بعض المراحل إلى نسيان الإسلام والذوبان في الفكر العلماني بمظلة دينية مزعومة. وبطبيعة الحال فلم تكن تلك التنازلات دفعةً واحدة، بل أخذت هذه التنازلات في التنقل بين المراحل التالية:


المرحلة الأولى: التعامل مع النظام العالمي باعتباره قَدَرُ العالم الذي لا يمكن الخروج عن إطاره. ولا بأس بأن يكون هذا الموقف من الناحية العملية فقط، لكنه تحوَّل إلى اعتقاد وفلسفة وتربية لأنفسهم ولكوادرِهم. وطِبقا لهذا الاعتقاد فالعالَم حَالِيًّا يقودُه الغربُ وعلى رأسه أمريكا، وإن لم يكن الغرب فقوة أخرى غير مسلِمة، وهذا مصير العالم إلى الأبد، ولا فرصةَ للإسلام أن يكون له أي سلطة أو موطئُ قدَم في العالم.


المرحلة الثانية: وهي نتيجة طبيعية للمرحلة الأولى، وهي تقديسُ الدولة القُطريَّة بكل مفاهيمها، وتقديمُ الانتماء لها على الانتماء للإسلام، بل ربما نسيان الانتماء الكامل للإسلام وقَصرُه على الانتماء الروحي. وحتى مَن لا يُصرّحون بذلك فهم يُطبّقونه عمليًا ويدورون في فلَك المفاهيم الوطنية سواء في السياسة أو القانون أو الاقتصاد أو العلاقات …إلخ.


المرحلة الثالثة: التماهي مع الأوضاع الراهنة القائمة على شرعية الطغاة وأنظمتهُم، وحتى مَن يعارض الطغاة إنما يُعارض الظلم والقمع فقط.

والقبول بشرعية الطغاة لا يقتصر على التحمُّل السياسي الإجباري، بل يتحول إلى قبولٍ فكري وجداني ونفسي؛ وحينها يتلاشى رفض الاستبداد والفساد واستحواذُ الأنظمة -سواء كانوا جنرالات أو عوائل- على مقدَّرات البلد، وقبل ذلك التدرُّج في نسيان دور الدين عن المشهد.


المرحلة الرابعة: الدوران في الهامش الصغير الذي يسمح به الطاغية والمحافظَة عليه، ثم تحويل هذه المحافظة إلى هدف استراتيجي، إلى أن تُصبِح مصلحةُ الجماعة ومصلحةُ الرموز مقدَّمة على مصلحة الدين نفسه.

ويَتبَع ذلك، المبالغةُ في الأدب مع الطاغية وتحاشي تحميله مسؤولية الواقع السيئ والظلم والفساد، ويُبنَى على ذلك الاعتراف بشرعيته، والتي تحصُل في البداية بمبرر براغماتيٍّ ثم تتحول شرعيتُه إلى موقف مبدئي تستبعد الجماعةُ مَن يشكك فيه.


المرحلة الخامسة: يُلغَى مبدأ السعي لتغيير الواقع بالمفهوم الشامل، وتتخلى الجماعة عن مفهوم إزالة الطغيان، وهذا يَتبَعه تِلْقَائِيًّا الاستبعادُ الكلي لاستخدام القوة سواء كانت مسلحةً أو قوة ناعمة.

وهذه البراءة من استخدام القوة و"التنزُّه" عن السعي للتغيير الشامل لا تقف عند عبارات براغماتية لدفع الضرر مؤقتًا، بل تتحوَّل إلى موقف استراتيجي مبدئي والتنظير له فِكْرِيًّا.


المرحلة السادسة: بعد أن تنأى هذه الجماعات عن استخدام القوة تنتقل إلى تجريم مَن يفكِّر بإزالة النظام، ثم التحالف مع النظام بكل طغيانه ضدَّه!

هذا الموقف لا يقتصر على مَن يحمل السلاح ضد النظام، بل حتى ضدَّ مَن يسعى سلميًا للتغيير الشامل ولا يعترف بشرعية النظام.


المرحلة السابعة: تستمر التنازلات بعد ذلك حتى تصلَ إلى قضايا كانت على رأسِ مقدسات تلك الجماعة؛ مثل: تحكيم الشرع، والولاء والبراء، والهوية والانتماء، ثم تنحدر إلى التنازل عن الفهم الإسلامي لقيمٍ كبرى مثل: الكرامة والحرية والعدالة، والاستعاضة عنها بالمفهوم العلماني مجاملةً للطغاة، ومداراةً للهيمنة العلمانية العالمية.


المرحلة الثامنة: بلوغ الحدِّ الأقصى في مجاملة الأنظمة الطاغية والعلمانية العالمية إلى حدِّ التنازُل عن قضايا غير سياسية مثل: المفاهيم الأخلاقية والحلال والحرام. والمبرر لذلك هو الذوبان في فكرة الأغلبية؛ فإذا رأت الأغلبية إباحةَ الخمر أو الزنا أو الشذوذ فيجب أن تعتبرَ مباحة، وكذلك من حق الأغلبية تغيير قوانين الميراث أو إلغاء أنظمة الزواج والطلاق الإسلامية. هذا الإقرار بحقِّ تغيير الأخلاق والقيم والقوانين ليس طأطأةً للرأس حتى تمرَّ الزوبعة، ولا هو تحت لافتة "عسى ولعل أن يتغير الحال في المستقبل"، بل هو تنظير مبدئي مبني على تقديم مرجعية الأغلبية على الدين.


والحقيقة أن التيارات في اجتياز تلك المراحل والتنقل بينهما ليسوا سواءً؛ بل بعضُ تلك التيارات أفرطَ في التنازل حتى وصل إلى المرحلة الثامنة، وأكَّدَ ذلك في أدبياته وبياناته، وبعضُها تنازل بدرجات متفاوتة، والقليل جِدًّا هو الذي صمَدَ أو اكتفى بتنازلات شكلية دون أن يُغلِّفَها بِتنظيرٍ فكري.


التوجه للغلو وحرق المراحل.. كيف حصل؟

التوجه الثاني: هو فرض المثالية والمبدئية عمليًّا دون تعديل أو تكييف لمجاراة الواقع، ومن ثَم مصادَمَة النظام العالمي والدولة القُطرية وهيمنة العلمانية والأنظمة الطاغوتية مصادَمةً مباشرةً في كل اتجاه ومن كل زاوية بطريقة فيها غلو ومبالغة في تضخيم الصدام.

وفي مقابل المراحل التي مرَّتْ بها التيارات المائعة فقد مرت هذه التيارات "المنبتَّة" بالمراحل التالية:


المرحلة الأولى: بعد إقفال هوامش الحرية وحرمان الإسلاميين من كل القوى الصلبة ترسَّخت لديهم القناعة بأن استخدام القوة هو الطريق الوحيد للتغيير، لكن يبقى تفكيرهم محصورًا في البلد "القُطر" الذي هم فيه. وما دام السلاح هو الطريق الوحيد فلا مجال لأي تغيير سلمي؛ ولذلك لا يوجد لهم جناح سلمي ولا يقبلون بمبدأ السلمية أصلا.


المرحلة الثانية: يدركون مع الوقت أن العالمَ محكوم بالنظام العالمي، ولا يمكن إحداث تغييرٍ ذي بال على مستوى الدولة القُطرية إلا بصدام حتميٍّ مع النظام العالمي، وهذا ما حصل بالفعل؛ فقد وجدوا أنفسهم حتمًا في صراع معلَن مع النظام العالمي.

وبسبب تشرُّب نفسيَّةِ التحدي والمواجهة، وغياب التفريق بين المبادئ والواقع، فإن ممارساتِهم خالية بالضرورة من أي طرح سياسي، بل مواجهة دموية صِرفة، واستفزاز صريح وتحدٍّ يدفع خصومَهم (الذي هو العالم كله) لِأنْ يجتمعوا في صفٍّ واحد ضدهم. وهم لا يكترثون بذلك ظَنًّا منهم أنهم منصورون مهما كان الأمر ما داموا مخلصين وصادقين في نصرة الإسلام.


المرحلة الثالثة: هي التشكيك في كل الذين يدْعونَ إلى التغيير السِّلمي سواء كانوا تياراتٍ أو رموزا. ويتفاوتُ هذا التشكيك بين الاتهام بالتقصير والتخلي عن الجهاد، وبين التشكيك بالدين والعقيدة في أصلها باعتبارهم راضِين بالطواغيت. وإذا كانوا يُشكِّكون بالناشط المهتم بأمر المسلمين فهم من باب أولى يُشكِّكون بعامة المسلمين الساكتين أو الراضين بالواقع السيئ.


المرحلة الرابعة: هي التشكيك بمَن حملَ السلاح غيرَهم لكن لم يقبَل بقيادتهم، أو لم يقبَل بنفسِ مواقفهم السياسية وبنفسِ تصنيفاتِهم، ثم لا يكتفون بالتشكيك به، بل يتحول الخلاف معه إلى صراعٍ دمويٍّ، والمبرراتُ كثيرةٌ وجاهزة.


وهذا الغلو والاستجابة للنوازع العاطفية على حساب الانضباط بالمبادئ الشرعية؛ ليس منهجَ الأنبياء عمومًا، ولا منهجَ نبينا محمد ﷺ خصوصًا؛ فقد تنزَّل قولُه تعالى في المرحلة المكية: ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ قيلَ لَهُم كُفّوا أَيدِيَكُم وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيهِمُ القِتالُ إِذا فَريقٌ مِنهُم يَخشَونَ النّاسَ كَخَشيَةِ اللَّهِ أَو أَشَدَّ خَشيَةً وَقالوا رَبَّنا لِمَ كَتَبتَ عَلَينَا القِتالَ لَولا أَخَّرتَنا إِلى أَجَلٍ قَريبٍ قُل مَتاعُ الدُّنيا قَليلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظلَمونَ فَتيلًا﴾ [النساء: ٧٧].

وحتى بعد الهجرة وقبل فتح مكة كان النبي ﷺ يُسدِّدُ ويُقارِب، ويُعاهِد هؤلاء، ويتحاشَى الصدامَ مع أولئك، ويتألَّفُ قلوبَ آخرين مع أنه ﷺ موفَّقٌ ومنصورٌ ومؤيَّدٌ من عند الله.

فإذا كان هذا منهجَ النبي ﷺ فلن يكون مَن يسعى للتعامل مع الواقع بطريقة "المُنبَتِّ" ويتخذ منهجَ الصِّدامَ الشامل متبعًا له ﷺ.

ما هو الحل؟ وهل هناك مَن تمكَّن من ضبطِ المسيرة؟

الحل سهل وواضح، لكنه فقط لمَن يستطيع التجرد لمراد الله، والانضباط الكامل بالمنهجية النبوية، ولديه استعداد للصبر وطول النَّفَس. والذين اقتربوا من ضبط المسيرة تجدُهُم يقِفون مَبْدَئِيًّا مواقفَ صلبة ولا يتزحزحون عن الثوابت، وهم كذلك عمليًّا يتحرَّكون في إطار ما تسمح به المنهجيةُ النبوية دون غلو ولا تطرُّف.  ولا يُمكِن إكمالُ الصورة عن الحل وضبط المسيرة إلا بالإجابة على الأسئلة التالية:


هل هناك أخطاءٌ لا تقدَح في المنهجية، لكنها كارثية وأضرارها كبيرة؟

نعم، وهنا نموذجان من الأخطاء من باب المثال، وليس الحَصر:

1- بعض التيارات ملتزمون بثوابت الدين مثل: مرجعية الكتاب والسنة، والولاء والبراء وغيرها، لكنهم يبالغون في مداراة الأنظمة بإجراءاتٍ أمنيَّة تدفعهم -عن غير قصد- لِأنْ يُعطِّلواالمشروعَ أو يقفوا مواقفَ قد تنفع النظام وتضرُّ المشروع الإسلامي لدواعٍ أمنية مزعومة.

2- هناك تياراتٌ أخرى تُقرِّر الدخول في البرلمانات الخاضعة لحاكمٍ مستبد، ليس إقرارًا بالنظام السياسي ولا تنازلًا عن المبادئ، ولكنْ يتخذون ذلك حيلةً لتحقيق بعض النتائج المحدودة، غيرَ مدركين أن هذا الدخول يُضفِي شرعية على نظام المستبد، بل هو اعترافٌ بأن ما سوف يصلُهم من مقاعد (عادةً لا يزيد عن ٢٠٪) هو نصيبُهم الحقيقي ما داموا قد اعترفوا بالنظام السياسي. ثم يتعوَّدُون على هذه الممارسة حتى ينسوا أنها براغماتية، ويتقبَّلون الوضعَ السياسي بالكامل.


هل يجب أن نمنع غيرنا من المبادرة سواء في اتجاه التمييع أو اتجاه الغلو؟

لا بد من السعي لترشيد التيارات، وإقناع الرموز بالموازنةِ الدقيقة بين الثوابت النظرية والتطبيق العملي، لكنْ فرقٌ بين أن نجتهدَ في السعي لذلك وبين أن يتحقَّقَ ذلك فعلًا؛ لأن تحقيقَه صعب ما دام المسلمون يعيشون تحت تغَوُّل النظام العالمي واستقرار الدولة القُطرية وتماسُك أنظمة الطغاة.

وقد يطرحُ البعضُ أن وجودَ الطرفين يؤدي إلى ترشيد الوضع تلقائيا، وهذا غير صحيح؛ لأن النتيجة هي مزيدٌ من الاستقطاب والتباعد وليس الترشيد.


هل تتحمل هذه التيارات مسؤولية ما نُسِبَ إليها من كوارث حلَّتْ بالمسلمين؟

يمكن الإجابة بنعم إذا كانت إجابة نظريةً على أساس أن المقصود أنها أخطاءٌ كان ينبغي أن لا تحصُل. ويمكن الإجابة بـ لا على أساس الواقع، وهو أن هذا قدَرُ الأمة في وقتها الحالي، وهذه التيارات والرموز إفرازٌ لحالة المجتمعات التي تعيشُ الجهل والتضليل والحصار والإبعاد عن الدين والاستفزاز في الهوية والانتماء والمرجعية.


مقالات ذات صلة

حدود البراغماتيّة في الإسلام

الإسلام السياسي في مواجهة النظام العالمي والدولة القطرية

bottom of page