٣ رمضان ١٤٤٤ هـ
بماذا تميزت الصلاة ولماذا كانت عمود الدين
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
يردد كثير من الوعاظ كلاما كثيرا مفيدا عن أهمية الصلاة ويسوقون النصوص في بيان أهمية الصلاة والحث عليها لكن ربما يفوتهم بيان مجموعة من الميزات لهذه العبادة العظيمة التي جعلتها في منزلة خاصة تفوق كل العبادات العملية.
تكليف رباني مباشر فوق سبع سماوات
أنها العبادة الوحيدة التي شرعت على شكل "خمس صلوات في اليوم والليلة" بتكليف مباشر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء في أعلى السموات وقرب عرش الرحمن. ولا شك أن هذا التخصيص بهذا العلو في لحظة التشريع دليل على تفوق الصلاة على غيرها من العبادات العملية ومنزلة رفيعة عند الخالق نفسه.
والملاحظ هنا أننا أخبرنا بذلك في حديث متفق عليه في تفصيل طويل في قصة الإسراء (1) تضمن أنها كانت خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس صلوات. والمراد بالإخبار بهذا التفصيل هو تأكيد هذه الحقيقية حتى يبقى شك لدى المسلم عن تميز الصلاة في هذا العلو والمنزلة الرفيعة جدا.
النص على كفر تاركها
أنها العبادة العملية الوحيدة التي جاء النص الصريح في تكفير تاركها وهو ما لم يرد في حق أي عبادة عملية أخرى. نعم جاء الوعيد الشديد في ترك الصيام والزكاة والحج لكن لم يرد في أي منهما نص صريح في تكفير تاركه أو المقصر فيه كما جاء في الصلاة في أحاديث كثيرة.
وقد أجمع الصحابة على أن المقصود بالتكفير في هذه النصوص هو الترك كسلا وليس حجودا لأن جحود الثابت قطعيا لا يحتاج تكفيره إلى نص خاص وليس فيه تميز للصلاة. ولكن حتى من تردد في تكفير تارك الصلاة كسلا فقد أقر بأن تركها أعظم عند الله من كل المنكرات دون الشرك، فهو أعظم من ترك العبادات الأخرى وأعظم من عقوق الوالدين ومن قطيعة الرحم ومن قتل النفس ومن شرب الخمر ومن قطع الطريق ومن كل أنواع الظلم والفساد. (2)
توقيت ثابت لا يجوز التساهل فيه
أنها العبادة الوحيدة المرتبطة بتوقيت ثابت خمس مرات في كل يوم من حياة المسلم لا يجوز تأجيله ولا تعطيله. ووصل تشديد الإسلام في الالتزام بوقت الصلاة أن لم يسمح بتأجيله حتى في حالة الحرب فضلا عن المرض والسفر. ولهذا شرعت صلاة الخوف بصيغ تناسب حال المقاتل حتى لا ينصرم وقت الصلاة وهو لم يصل. ومما يتفق مع هذه القاعدة أن الفقهاء يلزمون المصلي بالتيمم إن كان لا يستطيع الحصول على الماء إلا بعد زوال الوقت.
وهذا الالتزام بالتوقيت خمس مرات يوميا مقصود إذا استحضرنا أن الصلاة شرعت من عند الرحمن بتكليف مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة الرفيعة. ذلك أن الصلاة بمثابة إلزام المسلم بإيقاف دولاب حياته المادية وتجديد الاتصال بالله خمس مرات باليوم وهذا له معنى عظيم يكتمل في الميزة التالية.
انقطاع تام عن كل المخلوقات
أنها العبادة الوحيدة التي يقطع فيها المسلم صلته وتواصله مع المخلوقين منذ أن يدخل الصلاة في تكبيرة الإحرام إلى أن ينصرف منها في التسليم بعد التحيات. في هذه الفترة لا كلام إلا مناجاة الله بالقرآن والدعاء والتكبير والتسبيح ولا بيع ولا شراء ولا أكل ولا شرب ولا التفات ولا تعامل مع المخلوقين حتى بالإشارة. ولا تعرف عبادة يكون فيها مثل هذا الانقطاع عن كل المخلوقات حتى في الطواف ويوم عرفة.
وإذا استحضرت هذه الميزة مع إلزام المسلم بخمس مرات يوميا تتضح أهمية الصلاة في عملية تجديد إجبارية للعلاقة مع الله وإبقاء صلة المسلم بربه وتقليل شأن الدنيا في قلبه. وبذلك تكون الصلاة كأنها إغلاق كل الأبواب والنوافذ المفتوحة على الدنيا تماما ومناجاة الله إلى أن تنقضي الصلاة.
لا تسقط ولا تؤجل حتى مع الشلل التام وفقدان السمع والبصر
أن وجوبها لا يسقط أيا كانت الظروف ما دام عقل الإنسان حاضرا. فالصلاة تجب في السفر والحضر وتجب في الصحة والمرض وتجب في الأمن والخوف وتجب في حضور الماء للطهارة أو غيابه. والمسلم مأمور بالصلاة قائما إن استطاع فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع يحرك يديه ورأسه، فإن لم يستطع يومئ برأسه فإن لم يستطيع فبِحركة عينيه، فإن لم يستطع يتخيل أنه يكبر للقيام والركوع والسجود. وأما السماح للنائم وفاقد الوعي بقضاء الصلاة فهذا لأن العقل نفسه قد غاب، والعقل مناط التكليف.
وهذه الميزة تتمم المعنى الوارد في الميزتين السابقتين أن صلة المسلم بربه ينبغي أن لا تتوقف أبدا مهما كانت الظروف، ولعله من هنا جاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم لتوقف الحائض عن الصلاة بأن "ذلك من نقص دينها".
لا تقبل إلا بطهارة
أنها لا تقبل إلا بالطهارة من الحدث الطهارة من الخبث، وهذا كذلك من تعظيم الصلاة ورفعة شأنها. ولم يتفق المسلمون على عبادة تشترط فيها الطهارة إلا الصلاة، وما قيل عن وجوب الطهارة للطواف لكنه ليس مجمع عليه. والصلاة بعظمتها وجلالها تستحق هذا التأكيد على الطهارة لأن فيه قطع كامل للعلاقة مع الدنيا وتفرغ كامل لمناجاة الله.
عمود الدين
هذه المزايا للصلاة تجعلها أهلا لتجديد الإيمان وتنمية الورع والبعد عن الحرام ومن ثم تحقيق قوله تعالى "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، وتجعلها أهلا لراحة البال وطمأنينة النفس ومن ثم تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم "أرحنا بها يا بلال". وتجعلها أهلا لأن تكون "أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة". وكلما اجتهد المسلم في استحضار هذه المزايا كلما عظم الصلاة وأحس بالتجديد المقصود في العلاقة مع الله بعد كل صلاة. وما دامت كذلك فهي أهل لأن تكون عمود الدين.
العبادة المنظمة للمجتمع
ربط الصلاة بالمسجد والتأكيد على دور المسجد وكونه مركزا لاجتماع المسلمين في الحي الواحد عدة مرات في اليوم جعل أثرها ممتدا في التعارف والتضامن والتكافل في المجتمع والتسابق في الخلق الحسن وتجنب الخلق السيء ونشر ثقافة "العيب" حتى ينضبط المجتمع تلقائيا لأن الجميع يعرف الجميع.
-------------------------------------------------------
(1) حديث الإسراء الطويل الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله وفيه "ثُمَّ عَرَجَ به إلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقالوا له مِثْلَ ذلكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أنْبِيَاءُ قدْ سَمَّاهُمْ، فأوْعَيْتُ منهمْ إدْرِيسَ في الثَّانِيَةِ، وهَارُونَ في الرَّابِعَةِ، وآخَرَ في الخَامِسَةِ لَمْ أحْفَظِ اسْمَهُ، وإبْرَاهِيمَ في السَّادِسَةِ، ومُوسَى في السَّابِعَةِ بتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَقالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أظُنَّ أنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أحَدٌ، ثُمَّ عَلَا به فَوْقَ ذلكَ بما لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، حتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، ودَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حتَّى كانَ منه قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى، فأوْحَى اللَّهُ فِيما أوْحَى إلَيْهِ: خَمْسِينَ صَلَاةً علَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إلَيْكَ رَبُّكَ؟ قالَ: عَهِدَ إلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، قالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ ذلكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وعنْهمْ، فَالْتَفَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى جِبْرِيلَ كَأنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ في ذلكَ، فأشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ: أنْ نَعَمْ إنْ شِئْتَ، فَعَلَا به إلى الجَبَّارِ، فَقالَ وهو مَكَانَهُ: يا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فإنَّ أُمَّتي لا تَسْتَطِيعُ هذا، فَوَضَعَ عنْه عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إلى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إلى رَبِّهِ حتَّى صَارَتْ إلى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الخَمْسِ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ واللَّهِ لقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ قَوْمِي علَى أدْنَى مِن هذا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أضْعَفُ أجْسَادًا وقُلُوبًا وأَبْدَانًا وأَبْصَارًا وأَسْمَاعًا فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذلكَ يَلْتَفِتُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عليه، ولَا يَكْرَهُ ذلكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ، فَقالَ: يا رَبِّ إنَّ أُمَّتي ضُعَفَاءُ أجْسَادُهُمْ وقُلُوبُهُمْ وأَسْمَاعُهُمْ وأَبْصَارُهُمْ وأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقالَ الجَبَّارُ: يا مُحَمَّدُ، قالَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، قالَ: إنَّه لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كما فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ في أُمِّ الكِتَابِ، قالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بعَشْرِ أمْثَالِهَا، فَهي خَمْسُونَ في أُمِّ الكِتَابِ، وهي خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إلى مُوسَى، فَقالَ: كيفَ فَعَلْتَ؟ فَقالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أعْطَانَا بكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، قالَ مُوسَى: قدْ واللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ علَى أدْنَى مِن ذلكَ فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أيضًا، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا مُوسَى، قدْ واللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِن رَبِّي ممَّا اخْتَلَفْتُ إلَيْهِ، قالَ: فَاهْبِطْ باسْمِ اللَّهِ قالَ: واسْتَيْقَظَ وهو في مَسْجِدِ الحَرَامِ."
تفاصيل ذلك باستعراض كل النصوص الواردة فيها وآراء العلماء تجدها في كتاب: الصلاة وحكم تاركها لابن القيم