top of page

٢٣ شوال ١٤٤٤ هـ

توازن الرعب بين داود غزة وجالوت إسرائيل

بقلم الدكتور سعد الفقيه

نحن في تحدٍ لحلّ لغز بعد استعراض مواجهة بين نموذجين:


النموذج الأول: إسرائيل جوهرة الأرض في التقدم العسكري والتقني، وأكثر الدول نصيبا من الدعم العالمي والحصانة من أي عقوبة، وأفضلها حظًا في تسخير الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية لحمايتها، ولم تترك فرصة في التفوق السياسي والعسكري والمالي والإعلامي والاستخباراتي والسيطرة على الأرض والجو والبحر.. إلا تمكّنت منها. 


النموذج الثاني: المقاومة في غزة، في شريط ضيق من الأرض، تُحاصرهم إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية والحكومات العربية، و تترصد لهم قوى الاستكبار العالمية، ومحرومون من مقوّمات الحياة الطبيعية، وكلامهم وتحركُهم مرصود بأحدث وسائل التجسس، ويكاد يوم الواحد منهم ينتهي كله بالسعي للبقاء على قيد الحياة. 


كيف للنموذج الثاني أن يصمد -بل ويرعب- النموذج الأول وينتزع منه التنازلات ويكرر الصمود أمامه ويحقق توازنا عسكريًا رغم هذا الفارق الفلكي في القدرات والمقومات؟


الإجابة في "نظرية داوود وجالوت" التي يتحدث عنها المؤرخون وعلماء النفس الاجتماعي فيما يسمى الحرب غير المتوازية. هذه النظرية تكررت في التاريخ، وهي مبنية على أن القوة التي يستحيل بمقاييس الطبيعة أن تنتصر على قوة أخرى تخالف التوقعات وتنتصر أو على الأقل توازن القوة الأخرى.


وقوام النظرية أنه تتوفر عند الطرف العاجز ظاهريًا قدرات أخرى غير التفوق العسكري والعددي لا يمكن للطرف المتمكن عسكريًا أن يتصف بها، أو أن يكون لدى الطرف المتمكن عسكريا ثغرات قاتلة لا توجد عند الطرف الأضعف عسكريا. فما هي الثغرات التي تجعل الكيان الإسرائيلي رغم قوته الجبارة وإمكاناته غير المحدودة مكشوفا أمام هذا الشريط الصغير وما هي القدرات المتوفرة عند المقاومة التي يستحيل أن تتوفر للإسرائيليين؟


مفهوم الحياة والموت 

الثغرة الأولى: هي مفهوم الحياة والموت عند الصهاينة، والذي يتمظهر على مستويين كلاهما ذا تأثير على السيكولوجية الجماعية للشعب الإسرائيلي ومن ثم القرار العسكري والسياسي. 


الجانب الأول: في طبيعة المنتمي لدينهم، وهي عشق الحياة بطريقة تشبّثية والخوف من الموت إلى حد الهلع والذعر، {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة"، "ولا يتمنّونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين}. 


لذلك ففي حرب الـ ٤٨ حين لم تكتمل الحماية العالمية لإسرائيل كان المجاهد الواحد يهزم فرقة كاملة بنداء "الله أكبر". والمقاتل الإسرائيلي ليس لديه استعداد لأن يضحي من أجل دولته أو فكرته أو دينه لأن هدفه هو الحياة ذاتها ومتعتها، وحتى عمله في الجيش هو لتحقيق هذا الهدف. وكل ما يتظاهر به الاسرائيليون من تحدٍ إنما هو بالاتكاء على هذا الدعم العالمي الذي جعلهم يستندون لظَهر قوي خدعوا أنفسهم فيه بالقدرة على المواجهة.


الجانب الثاني: هو محدودية عدد المنتمين لهذا الدين في العالم لأنهم أصحاب ديانة بالولادة وليس بالهداية. إضافة إلى ذلك فإن عددًا كبيرًا منهم غير مستعد للهجرة لإسرائيل، والذين هاجروا لا يمكن ضمان بقائهم في إسرائيل بل كثير منهم توجَّه بهجرة معاكسة بعد تنامي المقاومة. 


هذه الأسباب تجعل الإسرائيلي يحمل همّ مَن سيبقى معه في نهاية المطاف من بني دينه في هذه المعركة طويلة الأمد. ولذلك فإن خسارة شخص واحد في مخيلتهم إنما هي خطوة في اتجاه انقراض هذا الشعب القليل. وهذا يصنع رعبا في السيكولوجية الجماعية للإسرائيليين تترك أثرها في أفراد الجيش وفي القرار السياسي والشارع الإسرائيلي كله. 


في المقابل.. فإن الذين يواجهون إسرائيل يحبون الموت كما يحب خصومهم الحياة، بل إن الموت جزء من المشروع وخطوة أساسية في البرنامج، وصفوف المستعدين للموت طويلة، وكثير منهم يتسابقون إليه ما دام في سبيل الله. ولهذا فلا يمكن لإسرائيل أن تتفوق في ميزان الرعب إلا أن تضمن ألا يُقتل منها جندي واحد، وهو أمر مستحيل. 


لهذه الأسباب فإنّ قتيلًا واحدًا أغلى على إسرائيل من آلاف القتلى الفلسطينيين، وتكرر القتل بين الصهاينة له تأثير بالغ يصل إلى حد هروب جماعي وتدفُّق الهجرة خارج إسرائيل كما أكدتْ كثيرٌ من الدراسات.


الدولة المصطَنعة والسلام المتكلَّف

لا يستطيع الإسرائيليون، مهما طال العهد بهم كدولة مستقرة وقوية ومتكاملة الأركان، أن يهربوا من حقيقة أن  دولتهم دولة مصطنعة في جسم مزروع بشكل مُعتَسَف، بطريقة تخالف التاريخ والجغرافيا. الفرد الإسرائيلي يدرك أن عجز المحيط عن لفظ هذا الجسم المزروع هو وضع استثنائي وليس الأصل، وأن الوضع الأصلي سيعود وتلفظ المنطقة الشعب الإسرائيلي كله. الضامن للكيان في هذا الوضع الاستثنائي هو الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية، التي تحمي إسرائيل وتمنع شعوبها من المقاومة. والآلة العسكرية الإسرائيلية الضخمة ومعها أجهزة الاستخبارات والتكنولوجيا المتطورة كلها لن تنفع شيئًا إذا بدأت عملية رفض الجسم المزروع بعد زوال هذا الضامن.


أما السلام مع الدول العربية فالاسرائيليون مقتنعون أن وجدان الشعوب يرفض وجودَهم وسيكون هذا السلام أمرًا مؤقتًا، وقد تبين ذلك بشكل واضح خلال كأس العالم الأخير. ولهذا فإن إسرائيل في حالة متابعة مستمرة مع أمريكا وغيرها لضمان أن تبقى الحكومات الحامية لها في سُدّة السلطة حتى لا تتحرك الشعوب، وهذا ما يفسر حماس أمريكا وأوروبا لدعم الغرب للثورة المضادة بكل ما تستطيع. 


هذا القلق الدائم من أن الضمانات الحالية لا يمكن الاتكاء عليها لإبقاء الأوضاع الإقليمية، وخسارة الحماية من الحكومات العربية قد تأتي في أي لحظة كما حصل في الربيع العربي، وهذا ما يجعل الرعب عميقا في الوجدان الإسرائيلي، فيما ينطبق عليه المثل العامي "جاك الذيب جاك وليده". 


في المقابل فإن نَفَس المقاومة طويل، أولا: لأنهم يعتبرون قتالهم جهادا في سبيل الله وهذا ليس له أمد زمني، وثانيا: لأنهم يعلمون أن الشعوب العربية والمسلمة معهم، وأن الزمن لصالحهم والفرصة قادمة اليوم أو غدا لتمكين هذه الشعوب أن تصطف في جهاد شامل.


الدعم العالمي يتآكل

يعتمد الإسرائيليون -بعد حماية الأنظمة العربية- بشكل بنيوي على دعم عالمي غير محدود، خاصة من أمريكا وأوربا، ويعلمون أنهم يستحيل أن يستغنوا بقدراتهم المحدودة عن هذا الدعم. ولا يمكن أن يدوم هذا الدعم إلا أن تكون الدول الداعمة أولا: قادرة، وثانيا: راغبة. 


أما القدرة فغير مضمونة بعد ظهور علامات على انشغال أمريكا وأوربا بتحديات هائلة تشكك في قدرتها على الاستمرار في دعم إسرائيل.  وأما الرغبة فإن عوامل اقتصادية وسياسية وإعلامية وثقافية وحقوقية كثيرة تدفع باتجاه تغيير تدريجي من رغبة إلى رفض، بعد وصولها إلى قناعة أن دعم إسرائيل يضر مصالحها أكثر مما ينفعها. صحيح أن هذا التحول بطيء لكنه أكيد ويحس به الإسرائيليون، مما يزيد الرعب في عقلهم الباطن ويُعزز شعورهم بالهزيمة. 


في المقابل ساهمت أسباب كثيرة في فرض احترام صمود الشعب الفلسطيني وقدرة المقاومة على المواجهة. فمن جهة يضطر العالم كله لاحتِرام القوة والشجاعة، ومن جهة أخرى كسرت العولمة احتكار الإعلام العالمي الذي كان قد مكّن الصهاينة من تجميل صورة إسرائيل وتقبيح صورة المقاومة ردحًا من الزمن. هذا إضافة لِزوال هيمنة القطب الواحد وظهور قوى عالمية تتجه نشاطاتها لصالح المقاومة بشكل مباشر أو غير مباشر. نعم، لا يراهن المقاومون على الدعم العالمي ما داموا يجاهدون في سبيل الله، لكن قناعتهم أن الله سَيخذل الإسرائيليين بصرف الداعمين عنهم ويعطيهم دفعة إضافية في للصمود.


الدولة المؤقتة والعمر القصير

إسرائيل دولة قوية ومستقرة بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وبنيتها التحتية التي تضاهي دولا عريقة، لكن غالبية الشعب الإسرائيلي لا يستطيع الهروب من حقيقة أن دولتهم مؤقتة وعمرها محدود. ولا يقتصر السبب على كونها دولة مصطنعة وعضو مزروع في مكان خطأ، ولا بسبب قلقهم من انقطاع الدعم العالمي، لكن لوجود تناقضات اجتماعية وثقافية و نبوءات دينية تنخر في قدرتهم النفسية على المواجهة بثقة وقناعة.


أراد الإسرائيليون أن يقنعوا أنفسهم بالوحدة تحت مظلة مصلحة إسرائيل، وأن يصهروا المهاجرين في بوتقة الدولة اليهودية، وتمكنوا في بعض المراحل من إخفاء الانقسام الهائل في مجتمعهم، ثم لم يلبث أن انفجر بأقوى ما يمكن فأحدث رعبا لا يقل عن رعب المواجهة مع الفلسطينيين. هذا الانقسام إضافة لشعورهم الدائم أن المشروع الصهيوني مخالف للتعاليم اليهودية الأصلية التي تمنع تجمع اليهود قبل ظهور المخلص جعلهم يستحضرون النبوءات التي تتحدث عن زوالهم وأن سنينهم معدودة والتي كان آخرها حديث باراك عن حتمية النهاية قبل نهاية العقد الثامن. 


في المقابل.. يستقر في وجدان المقاومة خصوصا والفلسطينيين والعرب والمسلمين عموما أن هذه الأرض لهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والتمكين لهم شاء من شاء وأبى من أبى. هذا فضلا عن بشارات دينية ثابتة عند المسلمين، مقابلة لما عند الصهاينة، تتمثل في وعد بتمكين المسلمين من هذه الأرض ونصر كاسح على المعتدين. 


ماذا يريد الصهاينة؟ وماذا تريد المقاومة؟

كان إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين ٤٨ هدفا كافيا لإشباع التطلعات الصهيونية الأولى، ثم بعد التأسيس كان احتلال القدس هدفا كافيا لإشباع المرحلة الثانية. لكن بعد أن احتلت القدس وبقية فلسطين اكتشف الإسرائيليون أنهم لا يعلمون ماذا يريدون!؟ هل يريدون التعايش مع الفلسطينيين أو التخلص منهم؟ هل يريدون تحويل بقية فلسطين إلى السلطة الإسرائيلية أو يتخلون عنها؟ هل يريدون المزيد من الأراضي العربية؟ ولذلك اضطربوا في قضية المستوطنات ومفهوم الدولة الفلسطينية وتمت كل التفاهمات مع السلطة الفلسطينية والعرب على أسس هشة وتَرتيبات مؤقتة مليئة بالثغرات والقضايا القابلة للانفجار. 


في المقابل فإن الهدف عند المقاومة واضح، فهم لا ينطلقون من حسابات سياسية ولا دبلوماسية، بل من التزامات دينية لا يستطيع تغييرها قائد فصيل فاسد أو رئيس سلطة خائن. هذا الوضوح بعيد المدى لايمكن أن يصمد أمامه جيش لا يدري ما يريد ولا يثق بمستقبل.


داوود وجالوت مرة أخرى

لعله بعد هذا الاستعراض تتبين متعة التحدي ولذة النضال، ويتبين الفرق بين الموتة الرابحة والحياة الخاسرة. ومهما اجتهد الكُتّاب في شرح هذه المفاهيم لا يمكن إدراكها بقراءتها مكتوبة؛ لأنها مرتبطة بشبكة تفاعلية، وتجربة حياتية، وخليط من الوجدان والفكر والمعايشة مع الأحداث وفهم عميق للتاريخ والدين. ومسيرة غزة بمساحتها الصغيرة وشعبها المحاصَر ووضعها المواجِه لمؤامرة عالمية غير مسبوقة، هي الأمثل لأن تغرس في النفوس مثل هذا الإدراك لمفهوم كيف انتصر داوود على جالوت.





bottom of page