٢٤ صفر ١٤٤٥ هـ
حقائق عن العلم والعلماء وعلاقتهم بالمجتمع والسلطة
بقلم الدكتور سعد الفقيه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
هذا المقال لن يتناول الحديث عن أهمية العلم الشرعي وأجر من يسعى في طلبه وبقية القضايا التقليدية فيما يخص العلماء لأنها خدمت وربما أشبعت من قبل الكتاب والمتحدثين. الذي يتناوله هذا المقال هي مجموعة من الحقائق عن العلماء في الفكر السني وعن طريقة تحديد مستوياتهم وموقعهم الاجتماعي وعلاقتهم بالسلطة يندر تناولها وهي ليست أقل أهمية مما أشبع طرحه.
الحقيقة الأولى: لا مقياس محدد للتأهيل العلمي
التأهيل لتعليم الدين والفتوى في الفكر السني ليس له حدود معينة أو مستوى متفق عليه، وكل ما ذكره الأصوليون عن شروط العالم أو المجتهد إنما هي محاولات وصفية لمن تأهلوا وانتهوا وليست شروطا حقيقية تم اختبار العلماء عليها قبل أن يتصدوا للتعليم والفتوى.
وما جرى في التاريخ الإسلامي من الإجازة بالفتوى لم يكن محكوما بمقياس محدد بل كان متروكا للعالم الذي يجيز غيره، فضلا عن كونها ممارسة متأخرة في التاريخ. بدأت هذه الإجازة في نقل الرواية في خدمة الحديث النبوي ثم تطورت حتى وصلت الإجازة بالفتيا بشكل تدريجي. وكانت هذه الإجازة تصدر بتقدير شخصي من العالم الذي يجيز غيره ولم تكن خاضعة لمقياس محدد أو اختبار متفق عليه. وبهذا يبقى السؤال كيف يُعرفُ العالم ما دام لا يوجد مقياس محدد له؟
يعرف العالم بما يثبته أمام المجتمع كله بين عدد كبير من العلماء وليس أمام هيئة علمية. وإذا كان الجو العام سليما وتوفرت فيه حرية الجدل العلمي فلن يلقى المجتمع صعوبة في التمييز بين العالم الذي يستحق الاتباع والذي لا يستحقه. وقد يعتبر البعض هذه مثلبة في نظام العلمي الشرعي عند أهل السنة، لكن الحقيقة أنها ميزة، لأنها تفسح المجال لكل من يريد أن يتحمل هم مسؤولية البلاغ بأن يؤديها دون الحاجة لفحص مستواه الشرعي أو إجازته من هيئة رسمية.
الحقيقة الثانية: لا يوجد هيئة تحتكر الفتوى
العلماء في الفكر السني لا يخضعون في الأصل لأي هيئة دينية تتحكم بأهليّتهم للفتوى مثل الاكليروس المسيحي أو الحوزة الشيعية ولا احتكار الحكم الشرعي. ولهذا فإن العالم لا يحتاج أن يمر عبر هذه المؤسسات بما يشبه التنصيب الكنسي للقساوسة أو تعميد الحوزة لعلماء الشيعة. وقد يخطر في بال البعض أن المدارس الفقهية التي كانت تنتمي للمذاهب المعروفة كانت بمثابة هيئات دينية، لكن الحقيقة أن هذه المدارس لم تكن أكثر من توافق أصولي قَدَريٌّ أكثر منها مؤسسات متحكمة بمن ينضم لها.
في العصور الحديثة تدخّلت السلطات وفرضت مؤسسات دينية تتحكم بالعلماء وتفرض حكما شرعيا تجاه كثير من النوازل. ثم طال العهد على هذه المؤسسات المصطنعة حتى استقر في أذهان الناس أنها كيانات أصيلة في تنظيم العلم الشرعي، وأن الحكم الصادر عنها مُلزِمٌ بما يشبه إجماع العلماء فترتب على ذلك تضليلٌ جماعيٌ للشعوب. أما المبادرات الحديثة من قبل بعض العلماء المستقلين لإنشاء كيانات جامعة لهم فهي لا تعدو كونها جهدا تنسيقيا في تحديد المواقف التي ليس عليها خلاف، ومع ذلك فهي لا تملك حق احتكار الأحكام الشرعية.
ويردد البعض بلسان المشفقين أن إنشاء مؤسسة مرجعية واحدة لأهل السنة لن يكون احتكارا بل سيكون توحيدا للمواقف والفتيا مما يريح المسلمين، وهذا من الكلام الذي يلقى على عواهنه دون تفكير. فأولا: من المظاهر الصحية في الإسلام "السني" تعدد الآراء في القضايا التي فيها خلاف معتبر، وثانيا، مهما بُذل من جهد في جمع أفضل العلماء في مرجعية واحدة فإن عالماً واحدا خارج هذه المرجعية يستطيع نسف مواقفها بجدل شرعي قوي وحجة ظاهرة.
الحقيقة الثالثة: لا هرمية ولا ترقيات رسمية في المستويات
العلماء في الفكر السني ليس لهم تراتبية هرمية مثل التراتبية المسيحية والشيعية أو الطرق الصوفية وديانات ومذاهب أخرى، ولا يحتاج العالم أن يمر بالترقيات حتى يصل إلى مستوى عالٍ من المرجعية. ومنصب المفتي أو رئيس هيئة كبار العلماء إنما هي مناصب حكومية مستحدثة وتم اختيارها على يد الحكام وليس له علاقة بالتأهيل الشرعي.
وحين يتحدث الأصوليون "السنّة" عن مراتب الفقهاء والمجتهدين فإنما يصفون مستويات معينة سوءا ممن سبقهم أو من المعاصرين ولا يقصدون كيانات هرمية شبيهة بالمسيحيين أو الشيعة أو الصوفية. وهذه الأوصاف في الجملة محدودة الفائدة لأن الجدل الفقهي في الجملة لا يهتم بمستويات العلماء بقدر ما يهتم بالأدلة التي استدلوا بها والاستنباط الذي استخرجوه.
وفي التأريخ الإسلامي كان يمكن لعالم صغير السن مثل الشافعي وابن تيمية والنووي أن يتفوق على كل علماء عصره في بداية انطلاقته العلمية بما لديه من علم وقدرة على الاستنباط والاجتهاد في تعليم الناس ويعترف له البقية بذلك ويبقى تفوقه حتى بعد وفاته بما تَرك من تراث عظيم. وحتى في تاريخنا المعاصر رأينا علماء شباب ليسوا مرسّمين في هيئات رسمية ولا مخدومين من أجهزة الإعلام تفوقوا على ما يفترض أنهم من كبار العلماء. وقبل ذلك كان عمر بن الخطاب يضع ابن عباس وهو شاب صغير في مقام شيوخ بدر وكبار الصحابة بل ربما قدم رأيه على رأيهم.
الحقيقة الرابعة: سعة العلم لا تنفع دون شروطٍ أخرى
سعة العلم ليس لها قيمة ما لم يكن للعالم قدرة على الاستنباط وتنزيل هذا العلم على الواقع، فضلا عن الأمانة والورع والمسؤولية. ولذلك لا يستطيع المسلمون معرفة أحكامهم بالاكتفاء بنصوص القرآن والسنة، ولا الاكتفاء بفتاوى واستنباطات علماء سابقين، بل لا بد في كل عصر من عالم يستنبط من النصوص وينزّلها على الواقع متحليا بالأمانة والمسؤولية.
ولذلك حينما حذّر القرآن من الكتمان في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) لم يحذر من الكتمان المجرد -أي عدم إبلاغ الكتاب والسنة فقط- بل حذر من الكتمان في تنزيل النصوص على الوقائع. ولهذا قال تعالى "من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب" أي من بعد ما تبين للناس النص الشرعي ولم يبق إلا تنزيله على الواقع.
الحقيقة الخامسة: الحديث في الدين حقٌ للعالِم وغير العالِم
لا يوجد في الفكر السني اشتراط أي تأهيل في الحديث عن قضية دينية سواء كانت فتوى أو غير فتوى أو كانت مجادلة العلماء من قبل من هو أقلّ منهم. صحيح أنه يمكن أن يُردَّ عليه كلامه أو يُبيّن له خطأه، بل ربما يحاكم ويعاقب إذا تكلم بما يوجب العقوبة، لكن لا يُمنع ابتداءً من الحديث بحجة أنه غير مؤهل.
وهذه من مزايا الفكر السني الذي يفترض أن حرية التعبير هي الأصل وأن التدخل القانوني أو القضائي إنما يحصل بعد صدور الكلام أو الكتابة أو أي وسيلة من وسائل التعبير. ويخطيء من يظن أن فتح هذا الباب يؤدي إلى حرية الإلحاد والزندقة والدعوة إلى البدعة والفجور، وذلك لأن اعتبار أن الأصل هو المنع يُعد مخالفا لقواعد الشرع في وجوب البلاغ وتعليم الناس الخير.
الحقيقة السادسة: الخلافة الإسلامية مقابل الدولة الحديثة
موقع العلماء وقوة تأثيرهم تغيّر جذريّا في نظام الدولة الحديثة التي تغوّلت وفرضت هيمنتها على كل شيء، وصار المجتمع كله داخل كيانها، وتحكمت من خلال مرجعية الدولة "القانونية" بتحديد الصواب والخطأ والمقبول والمرفوض. وحتى ما يسمى بالمجتمع المدني في الدول الديموقراطية خاضع للتَشريعات التي تسنها الدولة من خلال البرلمان.
وقبل أن يظهر كيان الدولة الحديثة كانت المرجعية في التشريع بيد العلماء سواء كانوا مفتين أو قضاة، وهذا ما جعل جزءا ضخما من السلطة الواقعية بيد العلماء حتى في عصور الاستبداد السياسي. كان الحاكم يستطيع أن يمارس الاستبداد والظلم والفساد لكن لا يستطيع تغيير التشريع ولا فرض قوانين بديلة عن الشريعة، لأن هذا ينزع عنه شرعية السلطة، كون الالتزام بمرجعية الكتاب والسنة في القانون العام أقوى الأركان في شرعية السلطة حتى لو كانت مستبدة.
وحين كان المسلمون تحت الخلافة الراشدة كان الخلفاء في مقدمة العلماء، ثم حين صَارت مُلكاً وراثيا انحاز المجتمع تلقائيا إلى العلماء، أو (مجازيا) تحالف المجتمع معهم مقابل السلطة الحاكمة. وبهذا تقوَّى المجتمع بالعلماء من حيث أن العلماء هم الذين يعرفونه بالدين ولهم حق استنباط التشريع، وتقوَّى العلماء بالمجتمع لأن تبعيّتهم للعلماء تعطيهم نفوذا يحد من تغوّل السلطة. ولأن مؤسسة الدولة نزعت منها سلطة التشريع أصبحت في معظمها تنفيذية وحتى الشورى انحصرت في مداولات داخل الإطار التنفيذي.
وترتب على هذا فرق آخر وهو مدى استقلال العلماء في الحالتين. في جو الخلافة الإسلامية (حتى وقت الحكم الوراثي) كان الأصل في وضع العلماء أنهم مستقلون، لأن وظيفتهم ليست مرتبطة بالدولة وليس للدولة سلطة على مصدر رزقهم. أما العلماء في الدولة الحديثة فإن الأصل فيهم التبعية للدولة لأنهم إما معيّنون في مناصب مرسّمة مباشرة من الدولة أو في مواقع أكاديمية أو قضائية تابعة للدولة بشكل غير مباشر. وبهذا يصعب استقلال العلماء ما داموا محكومين بإطار الدولة سلطة ورزقا.
سؤال: هل يمكن التحايل على نظام الدولة الحديثة في استقلال العلماء؟
إذا قررت دولة من الدول الحديثة الاحتكام للشريعة وأعطت الحرية الكاملة للعلماء هل تكون قد وفرت لهم ما قد توفر في عهد ما قبل الدولة الحديثة؟ الحقيقة أن الإشكال أعمق وأوسع من إعطاء الحرية أو الاحتكام للشريعة لكن بما أن العودة إلى نظام الخلافة بكيانه الكامل ليست في المستقبل المنظور فربما يكون الجواب نعم على أساس "ما لا يدرك كله لا يترك جله".