٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٥ هـ
غزة تقرر مصير العلمانيين العرب
بقلم الدكتور سعد الفقيه
عاشت الدول العربية تحت أنظمة علمانية خلال الاستعمار وبقيت كذلك حتى الآن. ومع أن كثيرا من هذه الدول تعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي ألا أنها علمانية بامتياز في نظامها السياسي والقانوني ومرجعيتها النهائية. وحتى "السعودية" التي لم تخضع للاستعمار الصريح، "تَعَلْمَنَ" نظامها في وقت مبكر مستترا بواجهة دينية، ثم كشف عن علمانيته الشرسة الصريحة بعد محمد بن سلمان.
وفّرت الهيمنة العلمانية طيلة هذه المدة الفرصة لإنتاج وتكاثر عدد كبير من النخب العلمانية في العالم العربي رغم تدين المجتمعات وغلبة المحافظة الدينية عليها. هذه النخب ليست تيارا واحدا في تناولها لقضية العلمانية والدين، وفي تعاملها مع السلطة والمجتمع. وسبب التنوع يعود إلى أسباب تشكّل كل تيار منها وطبيعة نظرته لمفهوم العلمانية والدين.
العلمانيّون الحكوميون:
التيار الأول هو التيار النفعي الداعم للسلطة والساعي في خدمتها فكريا وحركيا. هذا التيار لا تهمّه حقيقة العلمانية ولا ما ينبني عمليا على أسسها الفكرية، بل يهمه خدمة الحكّام والدوران في فلكهم. والمنتمُون لهذا التيار صَفيقون لا يكترثون بتناقض اطروحاتهم ولا يهمهم أي فرع من العلمانية يتبنون ما دام في خدمة الحاكم.
يزعم معظم المنتمين لهذا التيار تبني الليبرالية التي تعتبر آخر تجليات العلمانية، لكنهم لا يقبلون من هذه الليبرالية إلا التحرر من القيم والدين. أما الجانب السياسي فعلمانيتهم فاشية تمجّد الحاكم وتعطيه السلطة المطلقة، وترفض حرية التعبير وحرية التجمعات، وتقف مع الحاكم ضد المشاركة السياسية والمحاسبة واستقلال القضاء. وأسوأ من ذلك تعطي الحاكم الحق في امتلاك البلد وتفريغ الجهاز الأمني والعسكري لحمايته وليس لحماية الشعب والوطن.
هذا التيار مُمَكّن من مواقع القرار السياسي والدبلوماسي والسياسات المالية والأمنية، وقبل ذلك مستحوذ على المناصب الثقافية والإعلامية، وبعض الدول مكنتهم حتى في المناصب الدينية. وغالب هؤلاء ثقافتهم محدودة وقدراتهم الذهنية والفكرية ضعيفة ولا يستطيعون دعم مواقفهم في مقابل التيارات الدينية، ولا أن يجادلوا نيابة عن الفكر العلماني.
وهم على كل حال لا يحتاجون أن يواجهوا التيارات الدينية بالحجة والجدل، لأن التفوق مضمون لهم بقوة السلطة، وقد مكنتهم السلطة من كل المنصات الثقافية والإعلامية وروّجت لرموزهم، وشوهت صورة خصومهم من التيارات الدينية.
العلمانيون المخلصون:
يصعب في مجتمعاتنا المسلمة أن يتبنى شخصٌ العلمانية بقناعة عقلية، وطمأنينة قلبية، ويقين فكري كبديل عن الإسلام. لكن مع إبعاد الإسلام عن التأثير في المجال العام، وحصر النشاط الديني في مجالات محدودة، ثم برامج تجفيف المنابع التي نفذتها معظم الحكومات صار هذا الأمر ممكنا.
المنتمون لهذا التيار متناسقون في طرحهم، منسجمون مع أنفسهم، صادقون ومخلصون في تبني العلمانية. وغالب هؤلاء ينتمون للعلمانية الليبرالية، حيث انحسرت النماذج الأخرى من العلمانية بعد أن هيمنت الليبرالية الغربية على المشهد العلماني. ومن يكون هذا طرحه فهو بالضرورة ضد السلطات لأنها ترفض الحريات العامة والمشاركة السياسية التي تدعو لها الليبرالية الغربية. ومقارنة بالشريحة الأولى فنادرا ما يعتلى هؤلاء المناصب أو المواقع المؤثرة لأن السلطات لا تثق بهم.
ويتجلى صدق هؤلاء من خلال بقائهم على الحياد بين السلطة والإسلاميين بعد كل حملة قمع يتعرض لها الإسلاميون، بل ربما تعاطفوا مع الإسلاميين احتراما لصدقهم وتضحياتهم وليس تأييدا لفكرهم. أقلية منهم قد تميل للاصطفاف مع السلطات ليس تأييدا لها لكن خوفا من سيطرة الإسلاميين ومن ثم إقفال الهامش عليهم.
العلمانيون المُضَلّلون:
التيار الثالث من العلمانيين هم الذين لم يبتعدوا قصدا عن الإسلام، وقد يكون بقي لديهم شيء من الالتزام الديني والعاطفة الدينية على المستوى الشخصي، لكنهم يؤمنون بإبعاد الدين عن الشؤون العامة خاصة السياسة والاقتصاد. وهؤلاء غالبا ما يكونون ضحية تشويه صورة الإسلاميين في الإعلام وتجهيل الناس بحقيقة الدين كنظام شامل للدولة، وهي نتيجة متوقعة لمن تعرض لتراكم برامج تجفيف المنابع، ورأى جيشا من المنافقين من "رجال الدين" الذين تتبناهم السلطة.
المنتمون لهذا التيار كثير خاصة في "السعودية"، لأنها أولا شوهت الإسلام من خلال مؤسساتها الدينية الفاسدة، وثانيا ربطت بين الإسلام وفساد وظلم النظام من خلال العلماء المنافقين. وهذا التيار ليس لديه عداء حقيقي مع الإسلام والإسلاميين، بل ربما كان لنشاط المناضلين الإسلاميين دور في تصحيح فكرته عن الإسلام، والدليل على ذلك أن هذه الشريحة انكمشت بعد ظهور المعارضة الإسلامية للنظام ونجاحها في تطهير سمعة الإسلام من فساد النظام وعلمائه.
العلمانيون الإسلاميون!:
هذا التيار يشتمل على فئة من المثقفين والمفكرين والنشطاء الذين يعتبرهم الناس إسلاميين ولكنهم في فكرهم وثوابتِهم أقرب للعَلمنة. وسبب ظهور هذا التيار هو ردة فعل على التخلف الحضاري والاستبداد السياسي والضعف العسكري والتقني والخدماتي، وغياب العدل والحرية والكرامة في البلدان الإسلامية. في المقابل انبهارهم بنماذج حقيقية لأنظمة حكم غير إسلامية، توفر ما يتطلعون له من عدل وحرية وكرامة، ومشاركة سياسية، ومحاسبة وشفافية، وتقدم تقني وخدماتي.
هذا التيار ليس نسقا واحدا، بل هو طيف يتفاوت في ابتعاده عن الدين واقترابه للعلمانية. في طرف من هذا الطيف من هو متحفظ يظهر بوضوح أنه قلق، يشعر بالخطيئة، وفي الطرف الآخر من هو جريء في إنكار ثوابت الدين وكأنه زنديق. ويختلف الاعتذار أو التفهّم لهم تبعا لاختلاف الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية، التي عاشوها في مختلف البلدان العربية. بعضهم يعيش في جو من الجهل والتراكمات الفكرية المغلوطة، والضغوط الاجتماعية والسياسية، والجرأة على الدين، وقلة المتدينين، قد يعذر فيه، والآخر يعيش في جو فكري واجتماعي خال من الضغوط، وفي وسط غزير العلم لا يمكن أن يساق له فيه عذر.
وغالب أطروحات هذا التيار تدور في ميدان المزاوجة بين الطرح الإسلامي والعلماني في السياسة ونظام الدولة وصياغة القوانين والعلاقة بين البشر. ورغم أنهم يُبدون حرصا على بقاء الإطار الإسلامي لطَرحهم، ألا أن مخرجاتهم الفكرية غالبا ما تكون لصالح العلمنة. وقد ساهم في كثرة هذه النماذج قمع العلماء الراسخين في العلم وتغييب أصحاب الحجة من المثقفين الإسلاميين المنضبطين بالمنهج السليم في السجون، فخلت الساحة ممن يبين الحق من الباطل والصحيح من الخطأ.
هذه الشريحة منهم من هو صادق في السعي للحرية والكرامة والعدالة ولذلك تعرض لنفس مستوى القمع الذي تعرض له الإسلاميون خاصة بعد الثورة المضادة، ومنهم من انشغل بالجرأة على الثوابت العقدية والمنهجية أكثر من انشغاله بمحاربة الظلم والفساد والاستبداد فصار مع الظلمة والمستبدين من حيث يعلم أو لا يعلم.
العلمانية العربية بعد الربيع العربي والثورة المضادة:
كان للربيع العربي ثم الثورة المضادة دور كبير في بيان الفرق بين العلمانيين الحكوميين والتيارات الأخرى. لم يكن غريبا أن يقف العلمانيون الحكوميون مع الطغاة قلبا وقالبا ويبذل جهدا كبيرا في تبرير القمع والاستبداد و تقبيح صورة من يخالف السلطة. وكان هذا الاصطفاف مع الأنظمة بشكل وقح دليلا واضحا أن المنتمين لهذا التيار موظفون مأجورون لا يهمهم التنظير الفكري لِمعتقدهم.
أما العلمانيون المخلصون والعلمانيون المضللون والعلمانيون الإسلاميون فمعظمهم ساهم في نشاطات الربيع العربي، ولذلك تعرض كثير منهم للقمع والتغييب أو الحرمان من المنصات الثقافية والإعلامية. وتفاوت مستوى قمعهم طبقا لقربهم من الإسلام، فكان للعلمانيين الإسلاميين الحظ الأوفر من القمع، وفي المقابل نجا عدد كبير من العلمانيين العقائديين المخلصين رغم معارضتهم للأنظمة لأن السلطات بعد الربيع العربي جعلت الطرح الإسلامي عدوها الأول.
تجربة الربيع العربي والثورة المضادة كشفت حقيقة علمانيي الحكومات لكنها لم تخلخل مباديء التيارات الثلاث الأخرى وبقيت قناعاتهم في الجملة بما هم عليه. ومن جهة أخرى أجبرت هذه التجربة التيارات الثلاث على حسن الظن ببعضها والقناعة أكثر بحب الإسلاميين للتضحية في سبيل تحقيق الحرية والكرامة والعدالة.
العلمانيون العرب بعد أحداث غزة:
كانت أحداث غزة في ٧ أكتوبر وتداعياتها في فلسطين وفي العالم العربي وفي العالم زلزالا تاريخيا أحدث هزة كبيرة في المجتمع العلماني بكل شرائحه السابقة، فما الذي غيرته تحديدا؟
أولا، تحطيم الأسطورة:
فاجأت عملية ٧ اكتوبر العالم في إثبات العجز الإسرائيلي استخباريا و تقنيا وعسكريا، وبينت الانهيار النفسي الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي. نفذت المقاومة العملية وهي محاصرة حصارا محكما منذ ما يقارب عقدين، إضافة إلى أن منطقتها الصغيرة محاطة بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الرصد الدقيق، فضلا عن وحدات عسكرية محيطة بهذه المنطقة مدربة بأفضل وسائل التدريب ومسلحة بأفضل الأسلحة خصيصا للتصدي لأي أختراق للحصار.
هذه الصدمة في تدمير أسطورة القدرات الإسرائيلية أجبرت المبهورين بالغرب وعلمانيته على إعادة النظر بهذا الانبهار والاعتدال في تصورهم عن قوة الغرب وقدراته. وفي نفس الوقت أجبرتهم على الاعتراف بقدرة المسلم أن يحقق ما لا يحققه غيره. صحيح أن شعوبا أخرى قاومت المحتل بشجاعة وتضحية كبيرة لكن لم تحقق أي حركة مقاومة مثل هذا النجاح في مثل ظروف غزة.
هذه التأثير الإيجابي إنما كان على العلمانيين الصادقين والعلمانيين المضللين والعلمانيين الإسلاميين، أما العلمانيين الحكوميين فليس لديهم استقلال فكري أو مبدأي حتى يتأثروا بل موقفهم دائما تبعٌ للأنظمة. ولأن الأنظمة ضد المقاومة ومع الصهاينة فليس غريبا أن يستخدم علمانيو الأنظمة لغة صهيونية في وصف أحداث ٧ أكتوبر بلا اعتبار لكل ما فيها من معطيات.
ثانيا، صمود وصبر الغزاويين:
من أعجب ما أبهر العالم، وكان سببا في إسلام الكثير، هو صبر الغزاويين وتماسكهم بعد القصف والقتل والدمار. ويكاد يكون منظر الهدوء والتماسك أمام المنزل المدمر وخسارة عائلة كاملة وكل ما يملك الإنسان من الدنيا هو المظهر الغالب على أهالي غزة. وجانب آخر لهذا الصمود أخَذَ قلوب الناس هو تأييد الغزاويين للمقاومة وعدم تحميلها مسؤولية ما أصابهم من قتل ودمار والإصرار على تحميل إسرائيل فقط مسؤولية الجريمة.
فإذا كان هذا الصبر والهدوء سببا في إسلام غير المسلمين فمن باب أولى أن يؤثر إيجابيا على كل العلمانيين العرب، عدا العلمانيين التابعين للأنظمة الذين ران الله على قلوبهم. وربما يكون أكبر تأثير لهذا الصمود على الفئة الثانية والثالثة لأن الجانب الروحي في هذا الصمود يخترق الوجدان، ومثلما كان سببا في إسلام غير المسلمين فسوف يعيد أمثال هؤلاء للصواب.
ثالثا، نفاق الغرب الليبرالي:
العجيب في موقف الغرب من أحداث غزة هو الإسراف في التناقض والمبالغة في النفاق والكذب والاختلاق وطمس الحقائق وقلب المسلمات. بالغ الغرب في الوقوف مع إسرائيل سياسيا ودعمها عسكريا واقتصاديا وتأييدها على أن ما تفعله من قتل ودمار بشكل غير مسبوق هو دفاع عن النفس وأن المقاومة إرهابية رغم أنها تقاوم محتلا يعترف الغرب أنه محتل.
هذا الموقف لم يكن غريبا على كثير ممن يعرفون الغرب على حقيقته، لكن العلمانيين العرب صُدموا منه إلى درجةٍ دفعتهم للتشكيك في المبادئ الليبرالية التي قلدوا بها ذلك الغرب. صحيح أنهم كانوا على اطلاع بالدعم الغربي لإسرائيل قبل الأحداث، لكن لم يتوقعوا هذه الدرجة من النفاق والكذب والصفاقة ولا المبالاة بقتل آلاف الأطفال وتدمير المستشفيات وقصف سيارات الإسعاف واختلاق القصص من أجل تشويه صورة المقاومة وتجميل صورة الصهاينة.
ومن فضول القول أن علمانيي الأنظمة لم ولن يتغير موقفهم، لأن الأنظمة التي وظفتهم تقف مع إسرائيل في جرائمها، ولهذا فليس من الوارد أن يتغير موقفهم مع غياب اي التزام فكري أو أخلاقي لديهم. أما الفئات الأخرى فقد تأثروا فعلا وقد أعلن بعض العلمانيين العرب انقلابهم على العلمانية وكفرهم بها.
وهناك استثناء يخص جزءا من العلمانيين المخلصين وهم من التيارات اليسارية الرافضين لليبرالية الغربية والتي يرونها جزءا من الإمبريالية، فهؤلاء لن يتغير موقفهم من العلمانية لأن مفهومهم ليس ليبراليا وهم ضد الغرب قبل وبعد أحداث غزة. وهؤلاء متناقضون أصلا لأنهم في الوقت الذي يرفضون الإمبريالية الغربية فإنهم يقفون مع روسيا مع أنها تمارس الإمبريالية والرأسمالية بطريقة ليست بعيدة عن الغرب. وليس من المتوقع لمثل هذه الفئة أن تتغير لهذا السبب إذا لم تتغير للسّببين السابقين.
التأثير الأعظم سيكون مع نتيجة الأحداث:
رغم ضخامة التأثير الذي حصل حتى الآن على التيارات العلمانية فإنه يتضائل أمام التأثير الذي سيحصل بعد نهاية أحداث غزة، والذي سيغير -والله أعلم- كل الخريطة العلمانية في العالم العربي.
ولأن سير الأحداث له سيناريوهات متعددة ولكل سيناريو نتيجة مختلفة، فسوف يستدعي استشراف هذا التأثير بسِيناريوهاته المختلفة تفصيلا واستطراداً لا يتسع له المقام هنا، ولذا نفرد له مقالاً مستقلاً بعون الله.