١٠ جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـ
غزة تقرر مصير العلمانيين العرب
الجزء الثاني: ما بعد الحرب
بقلم الدكتور سعد الفقيه
في الجزء الأول من هذا المقال كان الحديث عن مدى تأثير أحداث غزة على العلمانيين العرب بتياراتهم المختلفة. وفي هذا المقال عرض لمصيرهم في المرحلة التالية من أحداث غزة بناء على المآلات المحتملة لتطور هذه الأحداث.
ومع أن الحديث عن تأثير أحداث غزة على العلمانيين يبدو مرتبطا بهذه الأحداث بصورة مرحلية فقط، إلا أن له بعد فكري وتاريخي يبقى به أثر هذا المقال -والله أعلم- بعد تجاوز هذه المرحلة.
ما يجري الآن وتداعياته سوف يؤدي إلى تحولات استراتيجية في المجتمعات العربية ومن ثم يعتبر الحديث عنه تحليلا لتطورات تاريخية وليس تعليقا على أحداث عابرة.
وقبل سرد السيناريوهات المتوقعة هنا تذكير بأصناف العلمانيين العرب كما جاء في الجزء الأول من المقال.
النوع الأول هم "العلمانيون الحكوميون" الذين ليس لديهم فكر ولا ثقافة حقيقية بل هم شرذمة من الشهوانيين النفعيين الذين يدورون مع الحكومات وينفذون برنامجها في محاربة الدين. النوع الثاني هم "العلمانيون الصادقون" الذين تبنّوا الطرح العلماني بصدق، وغالبهم معارض للحكومات لأنهم ضد الاستبداد والتبعية للغرب. والنوع الثالث هم "العلمانيون المُضَلّلون" الذين تبنوا العلمانية سياسيا فقط بعد ظنهم أن ممارسة علماء السلاطين هي الدين الحقيقي. والنوع الرابع هم "العلمانيون الإسلاميون" الذين تبنوا بعض الأفكار العلمانية بسبب هزيمة فكرية تسبب فيها إليها ضعف المسلمين وطغيان حكامهم مع اعتقادهم أنهم في إطار الإسلام السياسي.
ما هي السيناريوهات الواردة؟
عند التأمل بعمق في وضع إسرائيل وجيشها وسياساتها وقياداتها واستحضار وضع المقاومة وردود الفعل العربية والعالمية يترجّح احتمال تفوق المقاومة في نهاية المطاف سواء بالضربة القاضية أو بالنقاط. ولكن من باب الاستعداد لكل الاحتمالات لا بد من عرض السيناريوهات حتى لو كان احتمال حدوثها مستبعدا.
السيناريو الأول: خضوع إسرائيل لشروط المقاومة
الاحتمال الأول والأرجح هو أن تتمكن المقاومة من التفوق في المعركة البرية وتتكاثر خسائر إسرائيل في قواتها إلى الدرجة التي لا تستطيع مواصلة القتال بريا. ومن جهة أخرى يستمر صمود أهالي غزة ودعمهم للمقاومة رغم المجازر والتدمير الذي أصابهم وبهذا تكون إسرائيل قد عجزت عن تحقيق أي من أهدافها بل تسبب ذلك في فقدان عدد كبير من مقاتليها فضلا عن معاناتها الاقتصادية والسياسية والهزيمة النفسية.
بهذه المعطيات سوف تُجبر إسرائيل على القبول بشروط المقاومة لإطلاق الأسرى وهي تبييض السجون في إسرائيل ورفع الحصار عن غزة وتعهد بإيقاف العدوان. وبهذا تنتصر المقاومة وهي في بقعة مساحتها أصغر من إسرائيل ستين مرة، وفي حصار قرابة العقدين من الزمن، وخصمها الجيش الإسرائيلي من أفضل الجيوش عدة وعتادا وتقنية، وتقف مع إسرائيل أمريكا وأوروبا، ومدعومة بخيانات كل الدول العربية المحيطة بفلسطين وتعاون كامل من السلطة الفلسطينية.
هذا النصر للمقاومة والهزيمة لإسرائيل سيكون معجزة لا يمكن تفسيرها بالمقاييس البشرية. كل نماذج مقاومة المحتل التي قدمت تضحيات عظيمة لم تصل إلى هذا المستوى من الحصار الخانق وغياب التكافؤ والتآمر العالمي والداخلي وفي مساحة صغيرة جدا.
انتصار الفيتناميين على أمريكا والمؤتمر الوطني الأفريقي على النظام العنصري وثورات أمريكا الجنوبية وغيرها كلها حالات تمتع فيها المقاومون بدعم ومدد متواصل وتأييد قوى عظمى وقنوات لوجستية مفتوحة.
هذا الانتصار المعجز سوف ينسف عدة مسلمات استقرت في أذهان الشعوب العربية. سوف تتحول القناعة عند العرب بالعجز والفشل القدري والشعور بالدونية وتفوق الغرب وبقية العالم إلى قناعة بالقوة الخارقة والثقة بالنفس والقدرة على المنافسة والتفوق. وتبعا لذلك ينتهي الاعتقاد السائد بدهاء الصهاينة وقدرة أمريكا والغرب على التحكم بالأحداث في العالم كله. وفي نفس السياق سينظر الناس باستصغار للأنظمة التابعة لأمريكا والمقدسة لقوة إسرائيل.
هذه التغييرات ستجري في الوجدان العربي بقوة ومن ثم تكون انتكاسة كبيرة لعلمانيّي الحكومات لأن أنظمتهم نفسها ستكون في وضع ضعيف و تفقد هيبتها بسبب القناعات الجديدة. ولا يستبعد أن تجتاح الدول العربية موجة ربيع عربي آخر تنتهي بسقوط الأنظمة وانتقام الشعوب من العلمانيين التابعين لها. وحتى لو لم تسقط الأنظمة فإن سقوط هيبتها وعلو شأن الدين بعد انتصار غزة سيكون إهانة مذلة لهذا التيار ولا يستبعد أن يتخلوا عن طرحهم العلماني ومجاملة الناس بلغة دينية ما داموا في الأصل ليسوا أصحاب فكر ولا ثقافة وتبعا لما يريده القوي.
أما بقية التيارات فهي مهيأة أصلا لاستكمال التغيير لأن ملامح التغيير فيها قد بدأت منذ انطلاق الأحداث وسوف يكون هذا النصر المعجز قفزة كبيرة في اتجاه العودة لجادة الدين والتخلي عن الأفكار العلمانية. وحتى من تشبث بأفكاره العلمانية لن يتمكن من التصريح بها لأن الطرح الإسلامي سوف يهيمن وتعود هيبة الدين للمجتمعات ومن ثم يخجل العلماني الملتزم أن يصرح بأفكاره العلمانية.
السيناريو الثاني: تمرد في الضفة والأردن وغيرها
الاحتمال الثاني هو أن تتسبب الأحداث بتمرد في الضفة أو الأردن أو مصر أو بلاد الحرمين، و عندها تتسارع هزيمة الكيان الصهيوني وانهيار الحكومات العربية. وحتى لو لم تسقط الحكومات العربية فورا فإن هيبتها سوف تتدهور وستكون في طريقها إلى السقوط ومن ثم تحول كامل في العالم العربي لصالح الشعوب و دينها وكرامتها. وقتها يصاب العالم كله بهزة نفسية لم يكن مستعدا لها وتضطر أمريكا وأوربا وغيرها مسايرة التطورات والتخلي رغم أنفها عن إسرائيل حتى لا تضيع كل مصالحها في المنطقة.
وتأثير ذلك على العلمانيين العرب سيكون أقوى من السيناريو الأول لأن الاستجابة الشعبية سبقت هزيمة إسرائيل ومن ثم يكون التأثير الوجداني أعمق وأوسع. وكما هو متوقع سيكون مصير العلمانيين الحكوميين مثل مصير أنظمتهم سواء سقطت أو فقدت هيبتها واضطرت لمسايرة موجة التدين. أما التيارات الأخرى فسوف تكون عودتها للدين أسرع من السيناريو الأول وربما تنتهي ظاهرة الخلط عند التيار العلمانيين المضللين ويعود العلمانيون الإسلاميون إلى المنهج الإسلامي الصحيح. ولن يتمكن العلمانيون المخلصون من الصمود فكريا أمام هذا الزخم الجديد فإما يعودون بأنفسهم أو ينقرضون مع الزمن.
السيناريو الثالث: حرب إقليمية شاملة
الاحتمال الثالث هو أن تتوسع الحرب وتدخل فيها أطراف أخرى وخاصة إيران وعندها يكون التغيير أعمق من مجرد تغيير العلمانيين لمبادئهم. إذا توسعت الحرب وصارت إسرائيل وأمريكا في مواجهة إيران وحلفائها سوف تنتشر هذه الحرب في منطقة واسعة تشتمل على العراق وسورية ولبنان والأردن والخليج والجزيرة العربية، وسوف يطال التأثير تركيا ومصر وربما باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول. وإذا حصل ذلك فستسقط أنظمة وتنهار موازين قوى مر عليها أكثر من ثلاث عقود، وهذا ما قد يترتب عليه عدة أمور منها:
أولا: سقوط أنظمة كثيرة ربما يكون بينها النظام الإيراني وأنظمة دول الخليج والنظام العراقي والسوري والأردني.
ثانيا: تجد الشعوب نفسها مضطرة لحمل السلاح بعد أن تنهار الأنظمة إما للحماية الشخصية من الفوضى والجريمة أو مواجهة الصائل.
ثالثا: تجد أمريكا نفسها مضطرة للتخلي عن إسرائيل والدفاع عن مصالحها في الخليج بل والتحالف مع قوى شعبية في المنطقة حتى لو كانت جهادية
رابعا: عودة الناس بقوة للدين وتمكّن التيارات الجهادية من لملمة صفوفهم بحاضنة شعبية قوية بعد زوال الحكومات.
لن تكون الحصيلة بعد هذه التغييرات سريعة، وسوف تمر المنطقة - والله أعلم- بمعاناة شديدة، وفوضى وجوع وعطش وتوقّف كامل للخدمات، وقد يسبق سقوط النظام الإيراني تفوق مؤقت لإيران في كل الجزيرة العربية.
وإذا حصل هذا السيناريو فلن تستطيع إسرائيل البقاء بعد أن تخلت عنها أمريكا وأصبحت في مواجهة كل دول المنطقة. وبعد اضطرار أمريكا والغرب للوقوف إلى جانب شعوب المنطقة والتضحية بالحكومات القديمة وإسرائيل فسوف تنتهي الهيمنة الغربية وتتشكل قوة إسلامية سنية كبرى يضطر الغرب لاحترامها والتعامل معها تعاملا نديا. أما العلمانية فسوف تختفي بكل تياراتها تلقائيا ويكون الطرح السائد هو السعي لحُكمٍ إسلامي رشيد.
السيناريو الأخير: انتصار إسرائيل والقضاء على حماس
الاحتمال الرابع هو تمكُن إسرائيل من القضاء على حماس والسيطرة الكاملة على غزة، وهذا احتمال بعيد لكن يذكر هنا من باب إتمام الحديث عن كل الاحتمالات. وانتصار إسرائيل سوف يحمي الأنظمة العربية والعلمانيين الخادمين لها مؤقتا، لكنه لن يحصل إلا بعد تخلخل النظام الصهيوني واقتراب سقوطه بعد أن خسر ما خسر خلال هذه الحرب سياسيا وإعلاميا واقتصاديا ونفسيا.
ولذلك لن تطول نشوة الأنظمة العربية ومن معها من العلمانيين بهذا الانتصار الأعرج لإسرائيل، وذلك لأن طول مدة الحرب وجرائم الصهاينة وصراحَتهم في السادية وتندّرهم ببغض العرب والمسلمين وفضحهم للأنظمة المتعاونة معهم سوف تشحن الشعوب ضد هذه الأنظمة وتعجل بالافاقة التالية بعد هذه الغيبوبة.
أما مصير بقية التيارات العلمانية في هذا السيناريو فيعتمد على مدى قدرة الأنظمة العربية على إبقاء السردية الثقافية والإعلامية الحالية وبقاء السيطرة على الأنظمة التعليمية والاجتماعية والدعوية.
أخيرا
ربما يترجح احتمال السيناريو الأول أو الثالث، لكن مهما طالت المعركة فإن النصر حليف من نصر دين الله، ولا بد من الابتلاء والتمحيص "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"