٢١ ذو القعدة ١٤٤٤ هـ
كيف تأهل العرب لحمل رسالة الإسلام؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
أعظم الرسالات
الإسلام رسالة خاتمة لكل الرسالات وناسخة لها، مهيمنة عليها، ورسالة لكل البشر، وباقية إلى يوم القيامة، وهي الرسالة الوحيدة التي تعهّد الله بحفظها فبقيت وستبقى سليمة من التحريف والتزوير. ولهذا فمن الطبيعي أن يكون اصطفاء العرب لحمل رسالة الإسلام أعظم شأنا من حمل الأمم الأخرى لرسالات أنبيائهم، فما الذي أهّلهم لحمل هذه الرسالة وجعل الله يصطفيهم لها؟
الأهلية تحققت على مستوى الأفراد
تلقى الجيل الأول من العرب رسالة الإسلام وحملوها بحقها بشكل مثالي لم يحصل مثله في التاريخ. لقد كان منهم عدد هائل من العظماء في التربية والقيادة والعلم والتنظيم والأمانة والمسؤولية والأخلاق السامية. ولم تُنتِج أمة من الأمم هذا العدد العظيم من الشخصيات المثالية في جيل واحد. ومن فضل الله أن وثَّق لنا العلماء آلاف الأسماء من العظماء الذين ظهروا في وقت واحد وكانوا نموذجا لا يضاهيه نموذج.
الأهلية تحققت على مستوى الأمة
وعلى مستوى الأمة تمكَّن العربُ الذين لم يكن لديهم خبرة في البناء والتقنية والإدارة والتنظيم العسكري وصناعة السلاح أن يهزموا حضارات عريقة في وقت قصير. ولم يكتفوا بهزيمتها بل أنشؤوا مكانها دولة متكاملة البنيان سياسيا واقتصاديا وقانونيا وأمنيا واجتماعيا وروحيا وعسكريا. ربما استطاعت بعض الجماعات البشرية مثل المغول وقبائل الجرمان والهون اكتساح حضارات لكن لم يحل محلها إلا الفوضى والدم ثم ذابت هذه الجماعات في الحضارة التي هزموها.
ما هي المؤهلات؟
فإذا كانت الرسالة التي حملها العرب أعظم الرسالات، وإذا كان التأريخ أثبت أنهم أهل لحمل هذه المسؤولية أفرادا وأمة فما الذي كان فيهم من المؤهلات الذي جعلهم أهلا لذلك؟
غياب الحكم المركزي
مر على جزيرة العرب قبل الإسلام عقود طويلة دون إدارة مركزية ولم يوجد ما يلزم السكان بالتبعية لأي سلطة. هذا الواقع أنتج أجيالا متعاقبة من المتمتعين بالحرية والأنفة وعدم تحكّم أي مستبد. وقصص العرب قبل الإسلام وأشعارهم مليئة برفض التسلط والتغني بالحرية والأنفة. ولهذا لم يكن العرب بحاجة للتيه كما احتاجه بنو إسرائيل، بل كانت الصحراء المفتوحة ميدانهم وكانت الحرية طبيعتهم.
تعويضًا عن الحكم المركزي لجأ العرب إلى مشيخة القبيلة التي تُنظّم شؤونهم بشكل محدود ربما استهلكت قليلاً من الحرية المطلقة التي كان يتمتع بها ابن الصحراء. ومن هنا أتى تفوُّق قريش التي لم يكن فيها شيخ للقبيلة لعدة أجيال بعد أن مات قصي بن كلاب. وتمكّنت قريش من تنظيم نفسها بأعلى درجات التوافق والتفاهم مما جعلهم أقرب للحرية المطلقة من غيرهم من القبائل. ولعل هذا ما أعطى قريشا تفوقا في القيادة جعلهم -وهم الضيوف المهاجرون- أمراء على مَن استضافهم من الأنصار.
البيئة الصحراوية
تكامَلَ غياب السلطة المركزية مع الحياة الصحراوية في صناعة بشر من نوع خاص. صعوبة الحياة وشظف العيش وقلة الزراعة والاضطرار لكسب الرزق بالغزو والصيد جعل أهل الجزيرة العربية أهل جد وعزيمة ومسؤولية وتحفز ووعي مستمر. لم يكن عند العرب ترفٌ ولا استرخاء إلا ما كان في الأطراف حيث الغساسنة والمناذرة وممالك اليمن.
ومعروف عند علماء الاجتماع أن خشونة العيش وغياب الترف يرفع مستوى الجاهزية للجَلَد والصبر وطول النفَس والشجاعة والتضحية. وإذا توفرت القيادة والتنظيم فإن مَن تربى على الخشونة يتفوق بسهولة على من تربى على الترف والدَّعة. ولهذا فإن الجيوش الحديثة في الدول المترَفة تجبر جنودها على الخشونة والتحمّل وظروف المعيشة الصعبة سواء في الصحاري أو في الجليد أو في الغابات.
تعظيم الأخلاق
علاقة العرب بمكارم الأخلاق ليست في تَحلِّيهم جميعا بها فقد كان بينهم من ينقصه الكرم والشجاعة والأمانة والمروءة، لكنهم كانوا يُجمِعون على تعظيم مكارم الأخلاق. وكان المقدَّم عندهم والذي يقدَّر ويحترم ويكون أهلا لسيادة القبيلة هو الكريم الشجاع الشهم الغيور الوفي … إلخ. وحكايات العرب وأشعارهم مليئة بالتغني بالكرم والمروءة والغيرة والشجاعة والوفاء والأمانة.
كان بين الأمم الأخرى مَن هم معروفون بالكرم والشجاعة والمروءة، لكنهم أولا: لم يكونوا كثُر، وثانيًا: لم يكن في ثقافة تلك الشعوب وإنتاجها الأدبي تعظيم تلك الأخلاق ولا احترام وتوقير خاص لمن يتصف بها، بل إن معظم هذه الشعوب كانت تعظّم القوي والغني ولا تتضايق من البخل والدياثة وتقبل بمبدأ تقديم المنفعة والمصلحة على الأخلاق.
اللغة في أوج نضجها
من الإعجاز الرباني أن اللغة العربية إنما ازدهرت وبلغت نضجها العظيم في الصحراء حيث لا يعرف الإنسان إلا الأرض والسماء ولا يتعامل مع أيٍّ من تعقيدات الحياة المدنية. وتَهيأ للغة العربية أن تكون أفضل اللغات في مفرداتها التي بلغت أضعافَ مفردات اللغات الأخرى، وأصواتها التي استثمرت الحد الأقصى من تركيب الفم واللسان والحلق، وكذلك في تصريفاتها وتركيبتها وجُملها. وإذا كانت بعض اللغات قد تفوقت في جانب معين؛ فإن اللغة العربية هي الوحيدة التي جمعتْ بين الكفاءة في وصف أي نتاج بشري، والتعبير عن أي شعور، والتواصل بالمعنى الدقيق بين البشر.
والإعجاز يأتي من أن تُساق الأحداث بتقدير الله في جزيرة العرب على مدى قرون حتى تنضج اللغة وتكون في أفضل حالاتها لحمل هذه الرسالة العظيمة. وما دام الله سبحانه يقول "بلسان عربي مبين"، ويقول "جعلناه قرآنا عربيا"، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب فلم تكن رسالة الإسلام لتُستَوعب في غير هذا الوعاء.
وهناك دور آخر للغة العربية في اصطفاء العرب لرسالة الإسلام وهي أن الإبداع في اللغة كان جزءًا أساسيًا من حياتهم فقد كانت وسيلة للتنافس والترفيه والإعلام. هذه الثقافة في تعظيم التحدي في الكلام والتباري في الإبداع اللغوي إنما هيأه الله سبحانه ليكون أرضية لتحدّي القرآن لهم أن يأتوا بمثله. فالإعجاز ليس فقط في تفوّق القرآن عليهم، بل في تهيئة البيئة لأن يكون هذا التحدي شأنا مهما في صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
قوة العائلة والقبيلة والاعتداد بالنسب
لم يتفرد العرب بنظام القبيلة فهناك أمم كثيرة في التاريخ اعتمدت نظام القبيلة، لكن العرب تفردوا بنظام النسب وهو معرفة الأب والجد وتمام السلسلة ويتمّمه تعظيم شأن الرحم والخال، والعائلة والقبيلة فضلا عن أنها توفر الحماية والأمن فهي تردع الإنسان عن الخطأ والعمل الشائن لأن ذلك يُخرّب سمعة العائلة والقبيلة، ولعل لهذا دور مهم في بقاء مكارم الأخلاق عند العرب.
هذه العوامل وربما غيرها جعلت العرب في وقتها أمة مؤهلة لحمل هذه الرسالة العظيمة، وقد أثبتوا فعلا أنهم أهلٌ لذلك، فهل استمرت أهلية العرب؟ أم إن هذه العوامل تلاشت تدريجيا حتى لم يبق منها إلا قليل؟
التأهيل في وقته فقط
هذا التأهيل للعرب لحمل الرسالة كان في وقت البعثة وما تلاها في القرون الأولى، ومن سنة الله في البشر ألا تبقى أمة على نفس المستوى في الكفاءة والمسؤولية والجَلد. لكن ليس من المنطقي مقارنة العرب الآن بالعرب وقت البعثة، لأن جنس العرب بالمفهوم العرقي والمكاني لم يعد موجودا بالشكل الذي كان عليه بعد اندماجهم بالأمم الأخرى. وعلى كل حال فقد تلاشت هذه الصفات التي جعلت الأمة مؤهلة لحمل الرسالة، وإذا أراد روّاد النهضة إعادة شأن الدين وحمل الرسالة من جديد فلا بد من أن يبحثوا عن وسيلة لإحياء هذه العوامل ولو بشكل جزئي.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾
انظر: إن شئت كتب السيرة والتاريخ وأسماء الصحابة وسلسلة قادة التاريخ الإسلامي لمحمود شيت خطاب.
عاثت القبائل الجرمانية والهون بالرومان قتلا ودمارا ولم تقدّم أي نظام اجتماعي وعاث المغول بالصين وبلاد المسلمين ثم ذابوا في حضارة الصين والحضارة الإسلامية.
يقول تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا» فريقين يعني عربا وعجما.
قصة عمرو بن كلثوم مع عمرو بن هند الذي قتله؛ لأن زوجته تطاولت قليلا على أمه لم تكن إلا قصة من آلاف القصص من الأنفة والعزة والكرامة عند العرب قبل الإسلام.
ولولا الدين لما اجتمع العرب تحت قيادة واحدة، ولعل هذا واحد من أسباب نزول قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ..} الآية.
الحديث المتفق عليه "الأئمة من قريش" يوافق هذا المعنى سواء كان المقصود الأمر أو الإخبار.
من عجائب عبقرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمنع القرشيين من مغادرة المدينة وينتشروا في الأمصار خوفا أن يلتف الناس حولهم فتحدّثهم نفسهم بمنافسة السلطة.
في حادثة السقيفة كان استلام أبي بكر أمرًا محتومًا رغم أن المجتمعين في السقيفة معظمهم من الأنصار.
اشتهر تعليق ابن خلدون على هذه الحقيقة حيث أكد بن خلدون على أن الجيل الأول في إنشاء أي حضارة هو جيل خشن من إنتاج بيئة خشنة.
يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
كرم حاتم وشجاعة عنتر ووفاء السموأل ليست إلا نماذج صغيرة من مئات الحكايات والأشعار عن هذه الأخلاق العظيمة. وصدق أبي سفيان في مقابلته لهرقل وعفة عثمان بن أبي طلحة حين ساعد أم سلمة في هجرتها قبل إسلامه وإجارة مطعم بن عدي وهو كافر للنبي صلى الله عليه وسلم نماذج أخرى من نماذج لا تكاد تحصى من مكارم الأخلاق عند العرب.
من طرائف الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله قوله إن ترتيب اللغة العربية بين اللغات هو الأول ثم الثاني والثالث والرابع شاغر ثم اللغات الأخرى
يقول الشاعر الأيرلندي أودن واصفا قصيدة من قصائد ييتس وهو شاعر أيرلندي عظيم، كلاما معناه: إن الأرض والطقس والظروف اجتمعت حتى تهيء الفرصة لييتس أن يبدع في قصيدته. وهو معنى قريب من أن الظروف في جزيرة العرب تهيأت حتى تجعل من اللغة العربية لغة مثالية.
كان التحدي بالقرآن كله ثم بعشر سور ثم بسورة واحدة (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله..الآية)
اشتهرت مقولة مرة بن هلال في حرب البسوس ردا على المهلهل الذي أراد تسليم همام بن مرة: "وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه لي فأدفَعه إليكم"
بقيت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها سنوات في مكة مع زوجها العاص ابن أبي الربيع ولم تهاجر إلا بعد غزوة بدر ولم يتعرض لها أهل مكة المشركين بسوء