١٨ محرم ١٤٤٥ هـ
كيف نجادل من يشكك في جاهزية المشروع الإسلامي؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
يواجه بعض الإسلاميين سؤالا متكررا يدّعي فيه السائلون أن الطرح الإسلامي نظريٌّ عاطفيٌّ، وليس هناك حالة واقعية تمثل نموذجًا حاليّا يدل على قابلية هذا الطرح للتطبيق. ويَشعر الإسلاميون بالحرج في الإجابة لأنهم ينقادون للإجابة المباشرة فلا يجدون نموذجًا يُقدمونه للسائل.
والبحث عن نموذج -هكذا- إنما هو سقوط ساذج في فخ السائل، وصدام مع المنطق الفكري والتاريخي والاجتماعي. وللتخلص من هذه السذاجة فإن على الإسلاميين أن يستَحضروا مجموعة من الحقائق الفكرية والتاريخية والاجتماعية والمنطقية التي تكشف تفاهة مثل هذا السؤال.
ما هو النموذج المسؤول عنه؟
الذين يطرحون هذا السؤال عادة ما يتحدثون عن شعاراتِ بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية مثل: "الإسلام هو الحل" و"تحكيم الشريعة". وهذه الأطروحات مبنية على اعتراف كامل بالدولة القُطرية الحديثة ومؤسساتها وعلاقة المجتمع بالدولة فيها ثم إدخال تعاليم الإسلام بشكل مُعتسف في قالب هذه الدولة، وكأنه وضع أثاث غرفة النوم في حمام أو وضع أجهزة قيادة السيارة في طائرة!
وليس ثمة غرابة أنّ الذين يتبنّون مثل هذا الطرح يضعون أنفسهم في حرج أمام هذا السؤال ويخسرون الجدل؛ لأنهم عادة ما يُحيلون السائل إلى النموذج النبوي والخلافة الراشدة. وهذه الإجابة تقلب الحجة عليهم لأنه من المستحيل أن يُدخلوا النموذج الشامل للمشروع الإسلامي في الخلافة الراشدة في قالب الدولة الحديثة.
أما إذا زعموا أنهم يأخذون من الإسلام فقط ما يتناسب مع قالب الدولة الحديثة فهم يخسرون الجدل مرّة أخرى؛ لأنهم ينطلقون في جدلهم من مرجعية الطرف الآخر فيُعطونه الحق أن يكون خصمًا وحَكَمًا، فضلًا عن أنهم قد تنازلوا عن شمولية الإسلام، أو أنهم يتحدثون بما لا يفقهون.
من هو السائل؟
لا يمكن أن يسأل مثل هذا السؤال شخص تشرَّب تعاليمَ الدين عقيدةً وعبادة وسلوكًا وشريعة؛ لأن المسلم ملزَم شرعًا بالمساهمة في إقامة الحكم الإسلامي الشامل القائم على العدل والشورى وتحكيم الشرع وبناء الهوية على الإسلام. وهذا التكليف فرض على كل مسلم، بمعنى أن السعي لإيجاد هذا النموذج والإيمان به جزء أساسي من عقيدة المسلم، ومَن لا يؤمن به ففي إسلامه نظر. وبهذا فإن مَن يطرح هذا السؤال؛ إما أن يكون غيرَ مؤمن بتعاليم الإسلام مُنطَلِقًا من فِكر علماني، أو أن يكون مسلمًا جاهلًا بهذه التعاليم.
وإذا كان السائل غيرَ مؤمن بتعاليم الإسلام فمُشكلته في الحقيقة مع الإسلام نفسه وليس مع الجانب السياسي فيه؛ لأن الإسلام جملةٌ يُؤخَذ كله أو يُترك كله. وبهذا فإن الجدل معه ينبغي أن يكون حول الإسلام كدين وليس عن المشروع السياسي في الإسلام، تمامًا مثل الذي يرفض الاستغناء عن الربا؛ لأنه -كما يزعم- أساس الاقتصاد.
أما إذا كان السائل جاهلا، ولا يعرف بأن شمول الإسلام يستدعي تطبيقَه على المستوى السياسي، فيجب أن يُبَيَّن له الحق، ويُفترَض -إِن كان صادق الإيمان والتسليم للكتاب والسنة- أن يَقبل بمبدأ شمول الدين، ولا يتردد في القناعة بوجوب السعي لإقامة الكيان الإسلامي دون السؤال عن نموذج قائم. أما إذا أصرَّ رغم البيان والتوضيح وإقامة الحجة، فهذا لم يَعُد جاهلًا ويجري عليه ما يجري على العلماني.
لماذا يسعى المسلمون لهذا المشروع؟
سعى البشر على مر التاريخ في تجاربَ سياسية بشرية مختلفة؛ بعضُها لتحقيق تفوق القوة ونهب خيرات الشعوب الأخرى، وبعضُها للتمتع بالرفاهية والثراء فقط، وبعضها لنيل الكرامة والعدل والحرية إضافة للرفاهية والطمأنينة. وكانت هذه المساعي بدواعٍ بشرية قائمة على أولويات حُدِِّدَت في وقتها وبذلت الشعوب الجَهد في تحقيقها.
أما المسلمون فإنهم حين يسعون إلى إقامة المشروع السياسي الإسلامي فإنهم لا يقيمونه رغبة في تحقيق أماني تضافرت جهودُهم من أجلها، بل يُقيمونه تنفيذًا لأمر الله وقناعةً منهم أن ما شرعه الله هو الأفضل للبشر. وهذا ما يجعل سؤال "أرونا نموذَجكم" لا قيمة له؛ لأن السعي لذلك واجبٌ شرعي غير مشروط بوجود نموذج، والتقصير فيه إثم.
والذي ينطلق من منصة علمانية ليس له الحق أن ينتظر جوابًا مبنيًا على منطلقاته العلمانية من المسلم المؤمن بشمولية الإسلام. وعلى المسلم الملتزم أن يتحدَّثَ باستعلاء وثقةٍ بأن هذا أمر الله الذي لا يعرفه العلمانيون وعلينا تنفيذُه دون اكتراث لتفكيرهم.
هل بَحَثَ دعاةُ الأطروحات الأخرى عن نموذج قائم قبل السعي إليه؟
لم يكن بين يدي الذين نظَّرو للثّورة الفرنسية والثّورة الأمريكية نموذج قائم حين سعوا لتحقيق مبادئها، ولم يكن بين يدي دعاة الشيوعية نموذج ماركسي قائم حين كانوا ينظرون لها ويسعون إليها، بل إن العشرات من منظري وفلاسفة الدولة الحديثة ماتوا ولم يَشهدوا نموذجًا قريبًا من تصوراتهم.
إن كانت هذه الحقيقة معروفة لدى السائل فهو يُجاهِر بنيته السيئة وتجنِّيه على الفكر الإسلامي، وإن كان جاهلًا بها فجهله هنا ليس بالمعلومة فقط، بل هو جهل بآلية الحركة التاريخية وتطورات المجتمعات، وهو بهذا ليس مؤهلًا أن يسأل هذا السؤال. ومن ثَم يستطيع المسلم الملتزم أن يَقلِبَ السؤالَ عليه ويُظهِر جهلَه أو أن يكشف نيته السيئة حين يُعفِي الأفكار الأخرى مما ألزم به الإسلام.
أليست الإجابة بنَموذج الخلافة الراشدة إجابة صحيحة؟
يقفز بعض الذين يُطرح عليهم هذا السؤال إلى إجابة مستعجلة وغير مدروسة؛ وهي العزو إلى الخلافة الراشدة. والاستعجال بهذه الإجابة دون تحرير النقاط السابقة يُعطي السائل ذخيرة قوية يحاصر بها المسؤول. سوف يُلقِي السائِل -إذا تلقى مثل هذه الإجابة- عدةَ تساؤلات ثانوية تضع المسؤول في خانة ضيقة كلها مبنية على تجاهل المسؤول للنقاط السابقة.
لا شك أن الخلافة الراشدة هي النموذج الأمثل والأعلى والأعظم لِمَا يمكن أن تكون عليه البشرية، لكن إقحامها كإجابة في هذا السياق -وكأن المسؤول تحت طائلة تحقيق أو في صالة امتحان- إنما هو تقليل من شأنها واستهانة بها. ولا يليق بمَن يواجِه مثل هذا السؤال أن يتحدث عن الخلافة إلا بنقل النقاش إلى المستوى الذي يليق بها وبِمكانتها بعد تحرير النقاط السابقة.
التجربة أثبتت سوء نية مَن يطرح السؤال
انطلق الربيع العربي وتوفرت آليات الوصول للسلطة من خلال ما كان يزعمه مَن يطرح هذا السؤال فتبيَّن فورًا تفوُّق الإسلاميين وأحقِّيّة استلامهم السلطة؛ فماذا كان موقف العلمانيين؟ اصطف الغالبية العظمى منهم مع فلول الظلمة، وساهموا في دعم الثورة المضادة، وصفقوا لعودة الظلم والطغيان، بل صرحوا برفضهم الإسلاميين حتى لو وصلوا بطريقة "ديمقراطية".
هذا الانقلاب على نفس مبادئهم المزعومة ليس تحوُّلًا ولا تبدُّلًا في مواقفهم، بل هو كشف لسوء نيتهم ونفاقهم. ومن الملاحظات الطريفة أن القليل جدا من الذين وقفوا مع الإسلاميين وتصدوا للثورة المضادة من العلمانيين لم يكونوا يطرحون مثل هذا السؤال سابقًا وكانوا يُدرِكون الفارق الكامل بين المنظومة العلمانية والإسلامية، وأنهم لا يحق لهم أن يُحاكِموا الإسلام من منصة علمانية.
ما هي الإجابة الصحيحة؟
مع استحضار النقاط السابقة فإن الإجابة الصحيحة هي في قَلْب الطاولة على السائل، والإحالة إلى النقاط السابقة، ومن ثَمَّ محاصرة السائل بعد أن كان يحاول محاصرةَ المسؤول. ومرة أخرى لا يصلح أن يكون الجواب هو "الخلافة الراشدة" إلا إذا كان المسؤول في سياق وظرف مختلف تمامًا ليس هذا مكان الحديث عنه.
واقعية المشروع الإسلامي والموازنة الحرجة مع الدولة القطرية
من يتأمل هذا الجدل يخطر في باله سؤالٌ آخر: بغض النظر عن وجود أو عدم وجود نموذج، ما هي واقعية المشروع الإسلامي وقابليته للتطبيق في الدولة القطرية الحديثة والنظام الدولي؟ وفي مفارقة مفاجئة، فإن الإجابة نعم، لكن باعتبارها حالة اضطرار دون التنازل عن أي ثوابت، وليس التعامل معها وكأنها القدر النهائي للبشر الذي يجب تعديل الإسلام بما يناسبه.
تعامل الاضطرار لا يتعارض مع الإسلام عقيدة وشريعة، لأنه مبني على بقاء الإيمان بشمولية الإسلام ونظامه المتجاوز للأنظمة الحالية واعتبار هذه الحالة مرحلة من مراحل السعي للتمكين الشامل للإسلام. أما الخيار الثاني فهو تنازل صريح عن شمولية الإسلام وإلغاء الانتماء والهوية الإسلامية وهذا خرق لأصول الدين وتخلٍّ عن ثوابته.