top of page

١٦ جمادى الأولى ١٤٤٤ هـ

كيف يُعرف الرمز الموثوق به؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

ثَمَّة كتلة ضخمة من الفوضى الفكرية في بلادنا وفي البيئة الثقافية العربية عموماً؛ ما أدى إلى الإرباك وإثارة الشكوك في الرموز كالخطباء والمفكرين والمثقفين والمشايخ والمربِّين والكُتَّاب، وصار من الصعب التمييز بين الصادق والكاذب، أو بين الرمز الذي يُوثَق فيه والرمز الذي لا يُوثَق فيه.



نعم لا يُراهَن على رمز مُراهَنةً أبديةً لأن "الحي لا تؤمن عليه الفتنة"، لكن هناك من يؤمّل فيه الثبات والمواقف المنضبطة ويشعر من يتابعه بالأمان ما دام مستحقاً للرمزية.


وعند الحديث عن الرموز فليس المقصود من يقولون كلاماً مفيدًا في علوم أو ينشطون في ميادين مختلفة، فهؤلاء ينفع الله بهم حتى لو لم يكونوا متبوعين. إنما المقصود الشخصيات الريادية التي لها تأثير فكري أو حركي أو تربوي، والذين يظهر للمتابع أن لديهم إحساس بالمسئولية، وحِرص على خدمة الأمَّة، ووعيٌ بالظرف الزماني والمكاني، ويدركون التميُّز الفكري والحضاري والتربوي في أمَّتنا ومجتمعنا.


وحساسية هذه القضية لم تأتِ من قِبَل سوء الظن بالحكومات الفاسدة والإعلام الـمُنحرِف الـمُخرِّب، بل من كثرة الارتباك الناتج عمَّن وُثِق فيهم وراهَنَ الناس عليهم، ثم تبين أنهم ليسوا أهلاً للثقة، لخلل في أنفسهم وليس من سياسة الحكومات.


والكلام عن الرموز الموثوقة يعني بالضرورة استبعاد المرتزقة المفضوحين في ارتزاقهم، وعلماء السوء الذين يبيعون الفتوى ويغيِّرون الموقف ويتلاعبون بالأدلة كما يريد الحاكم، فهؤلاء لا خير فيهم، إذ إن جنتهم ونارهم عند الحاكم، حتى لو تكلموا بالكتاب والسُّنة وأكثروا الاستدلال بالآيات والأحاديث، وحتى لو مكنتهم السلطات من المنصات التي يصلون بها إلى الناس. ويستبعد كذلك من تشرَّب الهزيمة وقَبِل بواقعه المهزوم حتى لو لم يكن مرتزقاً أو عميلاً للسلطات، فهؤلاء يفترض أن يخسروا الريادة والرمزية تلقائياً فضلا عن أن يوثق بهم، وليسوا -على كل حال- معنيين بهذا الحديث.


ما هو إذن الميزان الذي نعرف به الرمز الموثوق؟

لا شك أن الدين والخلق في مقدمة ما يوزن به الإنسان، لكن هذا مطلوب لكل المسلمين وليس خاصاً بالرموز المستحقين للريادة. وفي نفس السياق فإن غزارة العلم وفصاحة اللسان وقوة البديهة وغيرها من القدرات المعرفية والعقلية صفات مطلوبة في الرموز، لكنها ليست خاصة بهم، فربما اتصف بها أستاذ في الجامعة يكتفي بدوره في مقاعد الدراسة، أو باحث شرعي منكب على إصدار البحوث، وأمثالهما ممن ليس له من الريادة نصيب.   إنما الحديث عن الرموز الجديرين بأن تلتف الأمة حولهم، وتستشرف أن يكونوا منارات في الدلالة إلى طريق النجاة والتمكين.


نعم لا بد للرمز أن يكون على دين وخلق، وله نصيب من العلم والفصاحة والمنطق والبديهة، لكن هناك قائمة أخرى من الاعتبارات التي تحوله من مجرد شخص متميز في علمه إلى رمز يستحق الريادة.  ومن خلال تتبع النصوص الشرعية والسنن التاريخية والتجارب البشرية يمكن رصد مجموعة من هذه الصفات التي تساعد في المراهنة على رمز معين.


التجرُّد

أي أن يكون الإنسان مخلصا لفكرته وقضيته، عادلاً في التعامل مع تحدياتها، لا تؤثر فيه المؤثرات سواء كانت الخوف والطمع والغيرة والحسد، أو حب الشهرة، أو مجاراة السلطة أو مسايرة الجمهور.صحيح أن التجرُّد المطلق مستحيل، لكن مجاهدة النفس تعين الإنسان على ألَّا يصدر كلام ولا موقف ولا ردة فعل إلا بمعطيات منبثقة من قضيته ومبدئه وليس من مؤثرات أخرى نفسية أو شخصية أو خارجية.


هذه المؤثرات بعضُها مكشوف وظاهر يستطيع الجاد الصادق أن يتوقعها ويستعد لها ومن ثم يحاول أن يتحاشاها، مثل الخوف والطمع والرياء، وبعضها خفيٌّ يجعلها ميدان الاختبار للتجرد الحقيقي ولا يتحاشاها إلا مَن رُزِق العدل والبصيرة والمسئولية.


ومن نماذج المؤثرات الخفية الغيرة من الأقران التي تؤدي إلى تصرفات كثيرة تظهر على هذا الرمز. قد يغار شخصٌ من أحد أقرانه الأكثر منه شهرة فيعيش هاجسه ويتصرف من خلال هذا الهاجس، إما في البحث عن مثالبه، أو التحيز لخصوم قرينه حتى لو كانوا على باطل، أو مخالفة أفكاره حتى لو كانت حقا، أو يزكي نفسه والدفاع عن مواقفه بلا مبرر سوى أنه مسكون بهاجس مقارنته بمن يغار منه.


ومن نماذجها كذلك مسايرة أستاذه وجماعته أو حزبه أو التيار الذي ينتمي إليه حتى لو كان على باطل، بل وتكلف مبررات ومعاذير ومخارج يزيَن له أنها شرعية ومنطقية، وهي ليست كذلك. ومثلها الاغترار بكثرة الطلاب والمريدين، ومن ثم الانزلاق إلى الكبر والعُجب، أو المبالغة في الثقة بالنفس. ومنها كذلك مسايرة الرأي العام الغالب في المجتمع حتى لو كان على باطل، خوفا من فقدان الجاه والمنزلة الاجتماعية.


ولا يقصد هنا ما يقوم به بعض الرموز من تصرف حكيم في الصمت عن قضايا ليست ذات أولوية من التي يؤدي اتخاذ موقف فيها لخسارة في مواقف أكثر أولوية.  كما لا يقصد تحاشي الجدل في قضايا خلافية حتى لو كان الرأي الراجح فيها واضحا لأن هذا قد يضعف تأثير هذا الرمز في خدمة قضايا ليس فيها خلاف.


السؤال المهم هو، كيف يمكن لمن يبحث عن الرمز الموثوق أن يقوّم مستوى التجرد عند الرموز؟ الإجابة هي في رصد مواقفه وتصريحاته وقراراته تجاه التحديات والأحداث، ثم مقارنتها بمنهجه الذي يتبناه. صحيح أن تقويم هذه الأمور خاضع للتقدير البشري، لكن هذا التقدير غالبا لا يخطئ إذا مر ما يكفي من الزمن لتتبع مواقف هذا الرمز.


النَّفَس الطويل:

بعض الرموز  شجاع مقدام، يعجبك كلامه وعباراته القوية ومواقفه الصارمة وتحدي الطغاة، بل تحدي المجتمع أيضًا. هذا الرمز قد ينجح في اختبار التجرد، لكن ليس لديه القدرة على الثبات أمام الضربات المتكررة، فربما يصمد أمام الضربة الأولى ولا يصمد أمام الثانية أو ما بعدها فيُغيِّر رأيه ويتحول.

هذا التحول قد يكون جزئيًّا أو كليًّا، وقد يعبر عنه علنا بتنكر  لخطته ورؤيته أو بانقلاب على رفاقه في الجهاد، أو يتحاشى الإعلان لكن يترجم تحوله بمواقف تعكس هزيمة وإحباط وانكفاء على نفسه واختلاق التبريرات للتخلي عن المهمة.  وقد شُوهِد هذا الانتكاس عند كثير من الرموز، فمنهم مَن صمد شهرًا، ومنهم مَن صمد سنة ومنهم مَن صمد أكثر ثم انتكس.


كما إن منهم مَن صمد أمام الملاحقة الأمنية لكن لم يصمد أمام الإغراء المالي، ومنهم مَن مُنِع من الخطابة أو الكتابة وصمد لكنه انقلب بعد الابتزاز بالمنصب، ومنهم مَن طرد من منصبه وصمد لكنه انقلب بعد دخوله السجن، ومنهم مَن صمد أمام كل شيء لكنه انقلب بعد دخول ميدان التجارة والأعمال والمال.

وحتمية الامتحان بطول النفس قضية قدرية معروفة ومثبتة بالكتاب والسنة، فالإنسان لا بُدَّ أن يتعرض لاختبارات متكررة وعقبات وتحديات ومِحَن متتابعة، وأكدت النصوص أن الثابتين أمام تلك الـمِحَن والاختبارات والعقبات قليلون.


والامتحان بطول النَّفَس من أشد أنواع الـمِحَن، ولذلك كان الأنبياء -عليهم السلام- أكثر مَن اختُبِر في هذا الجانب؛ فنبي الله نوح -عليه السلام- دعا قومه "ألفا إلا خمسين عاما"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «‌عُرِضَتْ ‌عَلَيَّ ‌الْأُمَمُ؛ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ ‌الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ».


والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مكة ثلاثة عشر سَنةً وتعرَّض لضغوط كثيرة وما آمن معه إلا بضعُ مئات، مع أنه أفضل البشر عقلاً وذكاءً وحكمة، وأكثرهم قدرة على القيادة، ومعه المعجزات المتتالية وفي مقدمتها القرآن العظيم، ومعه التأييد الرباني الكامل. ثم حتى بعد الهجرة تعرض لما حصل في أحد وحوصر في الخندق ولم تفتح له مكة إلا بعد ثماني سنين من الهجرة.


والصمود الكامل أمام طول العهد وتتابع البلاء لا يؤتى إلا للقليل الذين يثبت التاريخ أسمائهم ويطمس أسماء خصومهم، كما حصل للإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وأمثالهم.


بعض الرموز يضعفون أمام التحديات لكن لا ينقلبون على مسيرتهم، ولا يتنكرون لرفاقهم، بل يكتفون بالتنحي، فاتحين المجال لغيرهم من الثابتين، مثنين عليهم، داعين لهم بالنصر والتمكين، فهؤلاء يبقى لهم بعض الرمزية حتى لو أجازوا لأنفسهم استراحة المحارب. في المقابل فإن بعض الـمُمتَحَنين يَنهارون من المحنة الأولى أو الثانية ولا يترددون في طرح المبررات المرفوضة، بل إن بعضهم يريد أن يغير المسيرة كلها معه ويحرفها مع انحرافه، وكأن التاريخ والإسلام والدعوة والمشروع متوقفٌ على حالته النفسية وظروفه الشخصية!


ومم يجب التنبيه إليه أن ضرورة "الزمن" لتمكين الرموز سنة كونية عامة للبشر، وليست خاصة بالمسلمين، فمن سُنَن الله تعالى أنْ جَعَل كل تغيير كبير يستغرق وقتاً طويلاً ويُكبِّد ثمناً باهظاً.  فالثورة الفرنسية مثلاً أو الثورة الروسية أو الأمريكية -رغم أنها ليست ثورات إسلامية- مَضَت فيها هذه السنّة واستغرقت سنوات طويلة وتعرضت لتراجعات خطيرة قبل أن تؤتي ثمارها. وكثير من الرواد الذين أحدثوا تغييرات تاريخية كبرى -حتى من غير المسلمين- استغرق جهدهم عقوداً، وواجهوا انتكاسات كثيرة قبل أن يحققوا مرادهم. نلسون مانديلا مثلا بقي في سجنه ثمانية وعشرين سنة قبل أن يكتب له التمكين ويصل إلى رئاسة جنوب إفريقيا.


قضية أخرى ينبغي التنبيه لها، وهي أن تغيير المواقف في القضايا الجزئية والتفصيلية -أو ما يسمى باللغة الحديثة "التكتيكية"- لا يتعارض مع الصبر وطول النفس، بل إن كثيراً من هذه القضايا لا مفر من تغيير المواقف فيها بعد تبدّل المعطيات والأسباب والظروف.


وضوح المنهج والرؤية

ربما يتحقق عند بعض الرموز التجرد وطول النفس لكن مع مرور الوقت يتبين أنه مشتت الرؤية مضطرب المنهج. فهو لا يضعف في تحدي الظلمة ويبقى قويا في تحمل الصعوبات والابتلاءات، ويجتهد في التجرد لقضيته، لكن مواقفه وتصريحاته وقراراته متضاربة متناقضة.


وضوح المنهج لا يقتصر على التشبث بالمرجعية فقط، بل لا بد من وضوح الرؤية وتحديد المواقف وبقاء هذه الرؤية واضحة والمواقف ثابتة. ولهذا فلا بد لمَن يقتحم مشروع التغيير -لا سيَّما مَن لديه القدرة على البروز- ألَّا يتعجَّل في التصدي لعملٍ عامٍّ إلا أن تكون رؤيته واضحة،  فمعرفةَ الحقَ والباطلَ لا تكفي وحدها؛ إذْ لا بُدَّ من تنزيل ذلك على الواقع بشكل واضح لئلَّا يسقط كما سقط كثيرون.


بعضهم لديه خلل في كلا الجانبين، سواء في المرجعية والمنهج، أو في الرؤية والخطة، وهؤلاء أسوأ أنواع الرموز ويجب تجنبهم وتحذير الجماهير منهم. آخرون منضبطون في مرجعيتهم ثابتون على منهجهم العقدي والفكري، لكنهم مضطربون في الرؤية والخطط والمواقف من الحاكم وبقية القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة. وهؤلاء من الممكن التأمل فيهم، فربما يقتنعون بضبط رؤيتهم وخططهم وتثبيت منطلقاتهم في اتخاذ القرار والتعامل مع الأحداث والناس، فأصحاب المنهج السليم أحرى أن يقتنعوا بإصلاح رؤيتهم.


الثبات على المنهج والرؤية

فئة ثالثة لديها انضباط منهجي ومرجعية سليمة ووضوح في الرؤية والخطط في بداية انطلاقه، ثم يتعرض أحدهم للتحديات وطول الأمد فيحبط ويفقد العزيمة.  وفي محاولة لتبرئة نفسه من الهزيمة يلقي باللائمة على المنهج فيتراجع عن ثوابته ويضطرب عنده الصواب والخطأ ويبدأ يفلسف تمرده على المنهج، وهذا من أقبح الرموز، ومثله كمثل المرتد الناكص على عقبيه.


فئة أخرى يطول الأمد على أحدهم فيبقى متشبثا بالمنهج من حيث العموم، لكن يتراجع عن رؤيته ويقدم تنازلات أساسية في خطته وربما خذل أتباعه، أو شق صفهم، أو تحول من حيث لا يقصد إلى عميل للظلمة والطغاة. وهنا ليس المقصود المرونة السياسية والاجتماعية والحركية وتغيير الوسائل بما يواكب الواقع، إنما المقصود التخلي عن أصل الرؤية أو أساسيات الخطة وبنودها المبنية في الأصل على ثوابت وأصول.


أمراض الرموز

لا شك أن الخلل في الدين أو الأخلاق في مقدمة الأمراض التي تصيب الرموز، لكن هذه واضحة لا تحتاج إلى تحليل وبيان، ومثلها الأمراض المرتبطة بالموازين الثلاثة التي تقدم الحديث عنها. لكن هناك علل ربما تحتاج توصيفاً مستقلاً إما لأنها خارج هذه الموازين أو لخطورتها وتأثيرها على دور الرموز:


العلة الأولى هي النرجسية الطاغية: حين يعيش الرمز هاجس ذاته فلا يفعل إلا ما يُضخِّمه ويُجمِّله هو شخصيًّا سواء في اختياراته للموضوعات أو في التعليق على القضايا والأحداث أو في تفضيله كاتباً أو ناشطاً أو عالماً على آخَر، فلا ينظر للعالَم إلا من خلال ذاته وعظمته الشخصية، وبذلك تصبح ذاته هي القضية وليس الأمَّة ومشاكلها.


وقد شُوهِد مشايخُ ودعاة وأساتذة بارعون ومناضلون ضد الحكومات يُعانون من هذه النرجسية، وإذا تعرض أحدهم لنقد بكلمات قليلة شن حربا على من انتقده، وإذا لم يذكر في سياق يخصه جعل المسؤول عن ذلك من أجهل الجاهلين، وهكذا.


لا شك أن الناس يحبون الثناء ويفرحون به وهذا لا غبار عليه ما دام لم يطلبه الرمز ولم يسعى له بنفسه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تِلْكَ ‌عَاجِلُ ‌بُشْرَى ‌الْمُؤْمِنِ». وكذلك لا غبار على من يسعى لتفنيد بهتان موجه إليه، أو طلبَ ممن يحبهم ويحبونه الدفاع عنه، وفي حالات نادرة لا يتعارض مع ما إذا كانت  تزكيته هو شخصيا مطلباً مهمة للقضية التي يحملها خاصة إن كانت هذه قناعة الآخرين وليست قناعته.


العلة الثانية هي الشعور بالأستاذية والمرجعية: حين يعتقد الرمز أنه يمتلك حق الحكم على الآخرين ويُنصِّب نفسه مسئولاً عن تقويم منزلتهم ويضع فلاناًهنا وفلاناً هناك بشكل علني، فيكون هو المرجع في تقويم بقية الرموز.


يستثنى من ذلك إن كان هذا التقويم المعلن تحذيرا من شخص عرف ضرره وخطره، سواء في انحرافه الديني والمنهجي أو في خيانته وعمالته. كما يستثنى منه الثناء على من يستحق الثناء من العلماء والنشطاء والدفاع عنهم، خاصة حين تدعو الحاجة لتزكيته والدفاع عنه. كما يستثنى منه إجابة الرمز في مجلس خاص عن تقويم  رمز آخر ويجتهد في عدم إعلان ذلك.


العلة الثالثة هي ضيق الأفق ومحدودية النظر: فقد نجد شخصًا مخلصاً مناضلاُ  منضبطاً في منهجه، لكنه لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فيتخذ المواقف والفتاوى والقرارات بناءً على أفقه الضيق ونظره المحدود، ثم يأتي ما يبدل أحوال الأمة أو يبدل حاله هو شخصيا  فيتخذ موقفاً آخر مغايراً، ثم يتغير الحال مرة أخرى ويتخذ موقفاً ثالثاً مخالفاً لكلا الموقفين السابقين. قبل انطلاق الربيع العربي كان بعض الرموز نموذجاً للجمود في الجانب الحركي  يبررون "اعتزال الفتنة"، وحين علت وتيرته كانوا من كبار المنظرين للحراك السلمي ضد الطغاة، وبعد أن قُمع الربيع العربي و بطشت الثورة المضادة عادوا إلى جمودهم وتنظيرهم للقعود.


هذا التبدّل ليس مما يعتبر تغييرا مشروعا للفتوى مع تغير الأحوال والزمان والمكان، بل هو تقويض قناعات أصلية وانقلاب عليها. ومن هذا النموذج، ذلك الذي يؤيد التظاهر في بلد ويحرّمه في بلد آخر مع تشابه الظروف، ويوجب رفع السلاح في بلد ويحرّمه في آخر دون تبرير ظرفي أو شرعي، إلا حسابات شخصية نابعة من ضيق الأفق.


العلة الثالثة هي التسلُّط على الضعيف: وهي علة يصاب بها من يجبن عن مواجهة من يستطيع أن يؤذيه من الحكام أو المتنفذين أو الإعلاميين، وفي المقابل يفتل عضلاته على مَن يعلم يقينًا أنهم لا يستطيعون أن يعاقبوه أو أن يُلحِقوا به أذًى في جسده أو في أهله أو في حريته أو في سمعته. ويتفاوت هؤلاء في الضعف مع القوي والتنمر على العاجز، حيث يبدأ بالسكوت عن القوي، ثم ينتقل إلى مدحه كذبا ونفاقا، ثم يتطور إلى استعداء القوي "الظالم" على الخصم الفكري، مع أن خلافه مع القوي الظالم أعظم من خلافه مع الخصم الفكري.


العلة الرابعة هي الدوران في مباح الطاغية، من خلال الالتزام الصارم بالهامش الصغير الذي فرضه عليه الطاغية والمبالغة في كثرة الدوران داخله بجهدٍ معتسف محاولاً الكذب على نفسه أنه قفز الحاجز وتجاوز الخطوط الحمراء وهو لم يبرح مكانه.


هذا "التمطيط" والإسهاب يلجأ إليه الرمز ليس شرحاً لفكرة، أو إيضاحاً لغامضٍ، بل غالبا يكون توسعا متكلفاً يلجأ له عادةً من تمنى لنفسه الشجاعة ولم يوهبها، ويترجم هذا المسكين خداع الشجاعة بفتل عضلاته في قضايا تافهة يصنع منها خصوماً وتكتلات ومهاترات يتفرج عليها الطاغية بمتعة وراحة.


العلة الخامسة هي التخلي عن الصدارة في اللحظة التي تستحق المواجهة، والانزواء إلى الأطراف بزعم التواضع، أو رفض التصدي للمسؤولية في ساعة الحسم بذريعة الزهد في الإمارة، أو رفض المناصب التي يستطيع أن ينفع فيها الدين والأمة بحجة الخوف من التقصير. ,هذا كله من "الورع البارد" الذي يزعم صاحبه أنه يتقرب فيه إلى الله بينما هو تخلٍ آثم عن المسؤولية.


أخيرا:

قد لا تحتاج الأمة لمثل هذه الإشارات حتى تعرف الرمز الموثوق، فالمتسابقون على الريادة سوف يعصرهم الزمن، ولن يستقر في وجدان الناس إلا "الرائد الذي لا يكذب أهله".

bottom of page