top of page

٧ شعبان ١٤٤٥ هـ

لا تصدقوهم فإنهم يقدسون العنف

بقلم الدكتور سعد الفقيه

كثير ممن يتحدثون عن العلاقات بين البشر وطبيعة المجتمعات يبنون قناعاتهم على افتراضات مطلقة دون تأمل في التاريخ والسنن الكونية ولا دراية بالنفس البشرية والسيكولوجية الجَمعيّة. هذا الجهل المركب والعجز الفكري الشائع يؤدي إلى الوقوع في خطأ كبير وهو عدم التفريق بين الأُمنِيات والحتميات. ويسود عند أمثال هؤلاء - وهم كُثر- الاعتقاد الخاطيء أن البشر بطبعهم يمجدون السّلم ويكرهون العنف، وأن الإنجازات الكبرى في التاريخ تمت دون سفك دماء.


والعنف إذا لم يكن مبررا شرعا ولا أخلاقا، فهو مرفوض ولا يجوز إقراره ولا تأييده، لكن هناك فرق كبير بين الموقف الشرعي والأخلاقي، وبين الحتمية التاريخية. والتاريخ يؤكد حتمية أنه لا يمكن إنجاح أي تغيير شامل دون سفك كمية هائلة من الدماء، سواء كان مبررا أو غير مبرر. وفي أغلب الأحيان يصحب ذلك العنف مستوى عال من القسوة والرعب والإرهاب.


والقضية لا تقف عند حتمية العنف، بل إن التحولات القائمة على الدم والقسوة غالبا ما ينظر لها تاريخيا من قبل الأجيال التالية بِتعظيم وتقديس وأسطورية. وإذا كانت بعض الأمم تمجد السفاحين لأنهم أسسو الدولة أو وسعوها، فإن أمماً أخرى تنسب لهم  مكاسب الحرية والعدل والديمقراطية التي ينعمون بها. هذا التمجيد للسفاحين واعتِبارهم رموزا تاريخيّين لا يزال هو السائد عند الشعوب حتى بعد انتشار ثقافة حقوق الإنسان واحترام الحياة والكرامة الإنسانية.


هذه الحتمية ذكرها القرآن في كلام الملائكة عن البشر بعد أن أخبرهم الله سبحانه عن خلق آدم، "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". وقبل أن تكون حتما للقيادات البشرية العادية فقد كانت حتما للأنبياء "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض".


الثورة الفرنسية قامت على العنف والإرهاب

الثورة الفرنسية التي ينسب لها الفضل في نشر الديمقراطية في أوروبا لم تحصل نتيجة مظاهرات سلمية بريئة ولا نشاطا مدنيا هادئا، بل كانت عاصفة دمويّة صاخبة مليئة بالفوضى والعنف والدم. أُعدم في المرحلة الأولى من الثورة الفرنسية ما لا يقل عن ٤٢ ألف شخص بينهم ١٧ ألف أعدموا بالمقصلة المشهورة.


كان من بين أكبر ضحايا المقصلة، نفس رموز الثورة، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الثورة ماكسمليان روبسبير، وإعلاميّ الثورة والصحفي الأول جان بول مارات. هذه الأرقام لا تشمل الحروب التي حصلت بعد ذلك داخل فرنسا، إلى أن استلم نابليون المسؤولية، والتي لو حسبت لا تقل عن مئتي ألف، أما ضحايا الحروب النابليونية فربما تزيد عن المليون.


ينظر الفرنسيون للثورة الفرنسية بكل فخر واعتزاز ويضعونها في مقام النبوة، بل يفتخرون فيها على كل العالم، وحق لهم ذلك، فقد كانت الثورة ملهمة للتخلص من الاستبداد في معظم أوروبا . والفرنسيون لا يجهلون كمية الدماء التي سفكت والفوضى التي عصفت ببلادهم خلال الثورة الفرنسية، لكن هناك اتفاق تلقائي على تجاوزها، كدليل على الاعتراف بحتميتِها التاريخية.


ومن أقوال روبسبير في تبرير عنف الثورة: " إرهاب الثورة عدالة نابعة من الفضيلة"


ديمقراطية بريطانيا بعد بحر من الدماء

يتحدث الناس عن بريطانيا بصفتها أعرق ديمقراطيات العالم، ويصفونها بأنها أصدق في الحرية والعدل والمساواة من الديموقراطية الفرنسية والأمريكية. لكن الغالبية العظمى من الناس لا يعلمون أن كل هذه الديموقراطية مدينة بالفضل لـ "أوليفر كرومويل" الذي يكاد يكون نسخة بروتستانتية من تنظيم داعش أو الدولة السعودية الأولى.


ثار كرومويل على الملك تشارلز الأول حين رفض التنازل عن بعض السلطات للبرلمان، ودخل معه في حرب أهلية استغرقت أربع سنوات وتسببت في قتل ١٦٠ ألف شخص، سوى من مات بالمرض والمجاعة. هذا الرقم يمثل ٤٪ من الشعب الإنجليزي في زمن كرومويل، ولو حسب بالإحصاء المعاصر لتجاوز مليون ونصف إنسان.


لا يشكك أي بريطاني في أنه لولا ثورة كرومويل لما آلت الديموقراطية البريطانية إلى ما هي عليه الآن، بل إن الشعب البريطاني يتفق على تعظيمه لدرجة أن تمثاله أهم تمثال أمام البرلمان البريطاني. هذا التعظيم والاحترام لدور كرومويل في التوطئة للديموقراطية، يحصل دون اعتراض على هذا السفك الهائل للدماء والتشدد "الوهابي" وإلزام المجتمع بالقيم الدينية.


ومن أقوال كرومويل في تبرير سفك الدم: "عند الضرورة لا تكترث بالقوانين"


روما تحتفل بالتحول من جمهورية ديموقراطية إلى إمبراطورية دكتاتورية

لم يمكن تحويل روما من جمهورية محدودة المساحة مضطربة سياسياً إلى إمبراطورية مزدهرة غنية إلا بعد حملة من الحروب الأهلية بدأها يوليوس قيصر وأنهاها أوكتافيوس "أغسطس". قتل في هذه الحروب ما يزيد على المليون وانشغلت وقتها روما بحرب أهلية دامت أكثر من عشرين عاما وبدأ بعدها ما يسميه المؤرخون عهد الازدهار والبطر.


من المفارقات أن يوليوس قيصر صاحب هذا الفضل على الرومان، قضى على ديموقراطية روما، وحكم بشخصية المستبد، بل اختار لنفسه لقب "دكتاتور إلى الأبد"، وتمكّن بدهائه وقدراته القيادية من مضاعفة نفوذ روما عدة أضعاف. وفي مسيرته للسيطرة المطلقة دخل في حرب أهلية مع مجلس الشيوخ (رمز الديموقراطية) ومع صديق العمر الجنرال بومبي، وتسبب في كمية هائلة من الدماء انشغل فيها أكثر من انشغاله في حروب أعداء روما. وجاء بعده أوكتافيوس ليكمل مسيرة القضاء على الجمهورية ويحولها إلى إمبراطورية شاسعة.


ويلخص مسيرة يوليوس قيصر قولته العظيمة: " لا تخرق القانون إلا من أجل السيطرة على السلطة".


ألمانيا وبسمارك والحديد والدم

لا يختلف إثنان من الألمان على أن بسمارك هو الأب لألمانيا الحديثة ومؤسسها، وإن توحيدَه للإِمارات والممالك الألمانية عمل تاريخي عظيم، يجعله الشخص الأول في أي كتاب تاريخي عن ألمانيا.  كانت رحلة بسمارك مسيرة طويلة حافلة بالحروب والدماء منذ سنة ١٨٤٨ إلى سنة ١٨٧١ خاض فيها ثلاثة حروب كبرى مع النمسا والدنمارك وفرنسا اشتملت على أكثر من ٢٠ معركة على مدى ٢٣ سنة.


ورغم أن بسمارك ظهر بعد "الربيع الأوربي" وبعد وعي الناس بقيم الديموقراطية، إلا أن الوجدان الألماني حينها كان لديه الاستعداد بالتفريط ببعض قيم الديموقراطية في سبيل الوحدة والقوة للقومية الألمانية. وكانت أول خطوة دراماتيكية لبسمارك تجاهله البرلمان الذي عطل ميزانية الجيش، فبادر بصرف الميزانية للجيش رغم أنف البرلمان، واستثمر نجاحاته في استخدام الزخم الشعبي في المضي قدما في كل حروبه.


وقد خلد التاريخ عبارة بسمارك : "الإنجازات التاريخية تتم بالدم والحديد وليس برأي الأغلبية" وهي عبارة تحولت إلى عنوان كتب وأفلام ومسرحيات.


الدماء المقدسة من أجل الثورة الأمريكية وحرب الوحدة

يسمي الأمريكان جورج واشنطن وتوماس جيفرسون ومن معهم من القيادات الأولى للثورة على انجلترا بالآباء المؤسسين وينظرون لهم بالتعظيم والتبجيل والإكبار بعد نجاحهم في الاستقلال عن الحكم الإنجليزي. والذين يعظمون "الآباء الأوائل" يعلمون أن حرب "الاستقلال" تسبب في أكثر من ١٥٠ معركة استغرقت سنوات من تعطيل مصالح الناس والرعب تحت ظلال البندقية فضلا عما يزيد عن ٢٥ ألف قتيل والتشرد والمرض والفوضى.


انتجت هذه الدماء الكيان الجديد المسمى الولايات المتحدة، لكن القصة لم تكتمل إلا بعد الحرب الأهلية التي قضت على أكثر من نصف مليون قتيل وهو عدد لو حسب بالمقاييس الحالية لتجاوز ٥ ملايين قتيل. والمهم هنا هو أن وضوح الدستور الأمريكي وكثرة العقلاء لم يمنع أن يتسبب الخلاف حول العبودية في سفك كل هذه الدماء.


والأمريكان منذ ذلك الحين وحتى الآن ليسوا آسفين على هذه الدماء، بل يعتبرون جورج واشنطن بطل الاستقلال وابراهام لنكولن بطل الوحدة، ولا ينافس هذين الشخصين أحد في المجد في أمريكا. ورغم الدماء التي سالت في عهدهما فإن الأمريكا يتفقون على نسبة الفضل لهما فيما هم فيه الآن من حكم ديمقراطي، ودولة قوية تكاد تحكم العالم كله.


من أقوال جورج واشنطن في تبرير القوة: "الاستعداد للحرب هو أفضل الوسائل لضمان السلام"


إجماع في هنغاريا على تقديس السفاح

لا يمكن أن تقرأ في تاريخ المجر"هنغاريا" أو تمر بلادهم أو تتعرف على شخص مجري، إلا وتجبر على استماع إسم القائد المجري العظيم أتيلا الهوني. لم يكن أتيلا الهوني مفكرا ولا مصلحا بل كان أمّيا عديم الثقافة، لكنه كان قائدا موهوبا تمكن من تأسيس امبراطورية في وقت قصير، هددت روما وحاصرت القسطنطينية، وأجبر كلتا الامبراطوريتين على دفع الجزية.


كان أتيلا الهوني، كما وصفه المؤرخون، جباراً متغطرساً، يتحكم بشعبه باستخدام خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لانتصاراته بما يذيعه من القصص عن قسوته وبطشه بأعدائه، حتى سماه أعداؤه المسيحيون بـ "سوط الله" كناية عن غضب الله على المسيحيين بسبب كثرة معاصيهم. وكانت الإبادة الجماعية والتعذيب والاغتصاب وحرق قرى ومدن كاملة، ممارسة عادية في حروبه، بل كانت سببا في انتصاره بسبب رعب خصومه من هذه النتائج، واستعدادهم للتسليم ودفع الجزية خوفا من الإبادة.


وفي مسيرته لتوسيع سلطته تسبب في مقتل الملايين من الشعوب الأوربية وصادر ممتلكاتهم وأموالهم. ورغم أن المجر مشهورة بالمبدعين في الفن والموسيقى والأدب والفلسفة، فلا يمكن أن يتفوق افتخار أي شخص هناك بفنان أو فيلسوف أو موسيقار أو أديب على افتخاره بـ أتيلا الهوني.


من أقوال أتيلا الهوني: "جهزوا قلوبكم للدمار، واعلموا أن أجمل منظر عندي هو جثث القتلى المبعثرة".


جبار روسيا السيكوباثي هو صانع مجدها

كان إيفان الرابع أميرا لموسكو، ثم تمكن بشخصيته القيادية من إنشاء الامبراطورية الروسية، ووصف نفسه بالقيصر تأسيّا بالرّومان. وبهذا الإنجاز يعتبر إيفان الرهيب هو المؤسس الحقيقي لروسيا، ولا يرى الروس أعظم منه في تاريخهم.


منذ الخطوة الأولى في تحركه السياسي، كان دمويا حين انتقم من طبقة البويار (النبلاء) الذين كانوا أوصياء على العرش، حيث سحقهم بلا رحمة وتفنن في وسائل تعذيبهم ثم تفرد بالحكم بشكل مطلق. ومنذ ذلك الحين، أصبح حاكما جباراً، يستمتع بسفك الدم والتعذيب والقسوة.


من وسائله في التعذيب اغتصاب النساء أمام أزواجهن، وكان يتعمد اختيار النساء الأرستقراطيات لمتعة جنوده، من أجل أن يهين أكبر العوائل فلا يبقى له منافس. ومن الطرق التي يستخدمها مع خصومه، تهشيم الأرجل ثم إلقاء الضحية في الثلج وتركه حتى الموت. ومن والوسائل كذلك الشوي بنار هادئة، أو ربط الضحية بحصانين ثم ركض الحصانين باتجاهين مختلفين.


كل هذه القسوة والعنف يتجاوز عنها الروس وينظرون لإيفان بصفته أعظم الأبطال، لأنه هو الذي صنع روسيا وجعلها تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود إلى بحر البلطيق إلى مساحات شاسعة من سيبيريا. وفي استبيان حديث لا يزال ٧٠٪ من الروس يعظمون إيفان الرهيب ويعتبرونه الرمز الأعظم لروسيا؟


من أقوال إيفان الرهيب: "لا يمكن أن أترك خصمي يتنفس"


دراكولا "مصاص الدماء" هو بطل رومانيا القومي

لا يحتفي أهل رومانيا بأحد بقدر ما يحتفون بـ فلاد الثالث "دراكولا" وذلك لما قدم لِرومانيا التي كانت تسمى والاشيا من فضل في جمع الأقليات الرومانية المبعثرة في دولة واحدة بجدارة. وبلغ من شدة بطش فلاد الثالث وقسوته أن نسج حولها الروائي الإنجليزي برام ستوكر شخصية كونت "دراكولا"، مصاص الدماء الأشهر، وذلك في روايته الصادرة عام ١٨٧٩ تحت عنوان "دراكولا" والتي مثلت بعد ذلك في أفلام كثيرة.


يزيد عدد ضحايا فلاد الثالث عن ثمانين ألف قتيل، بخلاف القرى والحصون التي أحرقها، حيث كان يفتك بأعداء الدولة والمواطنين المتمردين على حد سواء بكافة أنواع التعذيب. وفي حين أن مصطلح "دراكولا" لقب حديث فقد اشتهر فلاد الثالث في وقته بلقب "المُخَوزِق" لأن الخازوق الذي يوضع في الدبر كان من أشهر وسائله في التعذيب، وكان يصلب جثث القتلى على نفس الخوازيق التي قُتلوا فيها.


ومن الوسائل الموغلة في الوحشية، أنه كان يشوي أطفال خصومه ويأتي بأمهاتهم فيجبرهنّ على  أكل لحوم أطفالهن، ويقطع أثداء النساء ويشويها، ثم يأمر أزواجهن بتناولها، وفي النهاية، يقتلهم جميعًا بالخوازيق. ومع ذلك لا يزال حتى الآن بطلا أسطوريا عظيما في عين أهل رومانيا والشخصية الأولى في تاريخ رومانيا.


أكبر سفاح في التاريخ يُعبَدُ إلهاً في منغوليا

من أعظم الشخصيات سفكا للدماء في التاريخ القائد المغولي الشهير جنكيز خان، الذي قتل ملايين البشر وأحرق عشرات القرى والمدن في مسيرته التي وصل فيها جيشه من منغوليا شرقاً إلى أوكرانيا وبولندا غرباً، ومن روسيا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً. ومن المفارقة في تاريخ جنكيزخان أنه قضى من الوقت في توحيد قومه، أكثر من الوقت في اجتياح الصين وخراسان وفارس وآسيا الوسطى.


واضطر جنكيزخان أن يقتل الكثير من قومه من أجل توحيدهم حتى أباد قبائل كاملة، قبل أن يلتف على جدار الصين العظيم ويَجتاحها. ورغم كل هذا العنف والدم فإن جنكيزخان عند المغول ليس معظما فحسب، بل هو في مقام الإله.


ومن أقوال جنكيزخان مخاطبا خصومه: "تعال واشرب من كأس الدمار"


التحولات الكبرى في التاريخ العربي والإسلامي تشهد بذلك

لم يتمكن محمد علي من تحويل مصر إلى دولة حديثة، إلا بسلسلة من الدماء افتتحها بمذبحة المماليك. وقبله لم يتمكن بيبرس من بناء دولة قوية يهزم فيها المغول والصليبيين في وقت واحد، إلا بقَسوة في الملك، وتساهل في الدماء، افتتحه بقتل رفيق جهاده قطز.


وقبلهم لم يتمكن العباسيون من إزاحة الدولة الأموية إلا بثورة دموية، قتل فيها على يد ابو مسلم الخراساني فقط ما يقارب المليون شخص. ثم تبع ذلك قمع سلسلة من الثورات بلا رحمة على يد المنصور، إلى أن استقرت الدولة وبقيت قرونا طويلة مهيبة الجانب.


ومهما حاولت الأمم تحاشي الدماء فمن حتميات التاريخ أن أي تغيير كبير لا بد فيه من دماء، ومن المفارقات أن عهد الدماء الذي ينتج ذلك التغيير غالبا ما تقدسه الأجيال التالية حتى لو اشتمل على القسوة.

bottom of page