٢٧ ذو الحجة ١٤٤٤ هـ
متى تزول أنظمة الظلم؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
يمكن تناول مستقبل الأنظمة الحاكمة من خلال طريقتين في القياس، الأولى من خلال معرفة طبيعة تبعية الشعب لهذه الأنظمة ولحظة زوال هذه التبعية، والثانية في معرفة عوامل قوة وضعف الأنظمة ومن ثم علامات الانهيار.
معرفة مستقبل الدولة من خلال طبيعة تبعية الشعب للسلطة
ويقصد به تعيين أو تحديد سبب انقياد الشعب للنظام الحاكم أو السلطة، والذي من خلاله يمكن تقدير العمر المتبقي لذلك النظام أو تلك السلطة. ويمكن تحديد ثلاث أنواع من التبعية أو الانقياد للسلطة الحاكمة في الدول أو التجمعات البشرية على مر التاريخ.
الانقياد من خلال الشرعية
أقوى وأعلى مستويات الاستقرار هو القناعة العامة بشرعية النظام السياسي، وهذه الشرعية قد تكون شرعية دينية مبنية على قناعة الشعب تديّناً بوجوب الانضباط بالنظام العام، أو شرعية تفويضية كما هو الحال في البلدان الديموقراطية والتي يدرك الشعب أن له دور في اختيار الحاكم وصياغة القوانين، أو شرعية الإنجاز وهي التي يتمتع فيها الحاكم الذي أنجز لشعبه إنجازات كبرى جعلتهم يقبلون بالتبعية له مكافأة له على ما أنجز.
واعتماد النظام السياسي على الشرعية يضمن بقاء النظام، ويوفر القناعة بأن الاستقرار هو قدر ذلك البلد، ويزرع شعورا شاملا بالطمأنينة لمستقبل هذا النظام. والدول التي تتمتع بمثل هذا المستوى من الشرعية يكاد يكون من المسلمات أنها باقية بنظامها السياسي إلى أجل غير مسمى ويضمن فيها الإنسان الحياة والاستثمار ويضمن حقوقه ومستقبله.
الانقياد من خلال المصداقية
المستوى التالي لتبعية الشعب للسلطة والذي ربما يصمد لأمد طويل، هو النظام الذي يحقق الحد الأدنى من واجبات أي سلطة في العالم وهو توفير الأمن وفض المنازعات حتى لو لم تتوفر له الشرعية بالشكل المذكور سابقا.
والتجمعات البشرية بطبعها تحتاج من يضمن لها الأمن ومن يضمن لها فض التنازع، ولذلك فإن النظام الذي يؤدي ذلك يحظى بفرصة جيدة للبقاء. ولا يمكن أن يتحقق الأمن الذي يشبع أي تجمع بشري إلا أن يشمل الأمن المحلي والأمن القومي. ويقصد بالأمن المحلي أن يأمن الإنسان على نفسه وأهله وماله وبيته وحركته وتجارته وسعيه لطلب الرزق الخ. ويقصد بالأمن القومي أن يأمن الشعب كله على البلد من أي خطر خارجي من خلال قوة رادعة تحمي هذا الكيان البشري. فإذا لم يتمكن النظام من تأمين هذين النوعين من الأمن فمصيره للزوال.
أما فض المنازعات فلا يتحقق إلا بقضاء له احترام وثقة بين أفراد الشعب. والثقة لها جانبان، الثقة بالقانون الذي يُحكم به، والثقة بأفراد القضاة. ولا يمكن الثقة بالقانون إلا باحتمالين، إما أن يكون قانونا إلهيا مثل الشريعة كما في الدولة الإسلامية، أو قانونا أقره برلمان منتخب كما في الدول الديموقراطية وكأنّه إقرار من الشعب نفسه. وأما الثقة بأفراد القضاة فلا تتحقق إلا أن يكونوا أهلا لهذه الثقة، وهذا بدوره لا يحصل إلا بنظام يضمن الأهلية لمن يصل كرسي القضاء.
الانقياد من خلال الرخاء الريعي
قد يكون لدى بعض الأنظمة القدرة على ما يمكن وصفه بشراء الشعب أو شراء القوى المؤثرة في الشعب. في هذه الأنظمة يتوفر للسلطة مصدر للثروة دون أن تفرض ضرائب على الشعب، ونموذجه الثروات الطبيعية كالنفط والذهب والمعادن كما في دول الخليج، أو الدعم الخارجي كما في مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
وإذا كان تعداد الشعب صغيرا فإن النظام يستطيع إثراء الشعب كما هو حال بعض الدول الخليجية. أما إذا كان العدد كبيرا فيكتفي النظام بشراء قيادات الشعب الدينية والفكرية والقبلية والعسكرية والأمنية والإعلامية فيُمسك بزمام الشعب كله من خلالهم وهذا هو حال بلاد الحرمين.
مثل هذا النظام يبقى في السلطة بشرطين، الأول أن يبقى مصدر الثروة متدفقا، والثاني أن يستمر في شراء الشعب أو قياداته بكفاءة. وإذا نفدت هذه الثروة أو عجز النظام عن شراء الشعب و قِياداته فلا مفر من أن ينهار النظام.
الانقياد من خلال الإرهاب
قد لا تتوفر للنظام الحاكم شرعية ولا مصداقية ولا ثروة ريعية، لكن يبقى صامدا معتمدا بالكامل على الجبرية المجردة المستندة إلى القمع والإرهاب. وانقياد الشعب للسلطة في مثل هذا النظام إنما هو انقياد خال من أي قناعة بأحقّية النظام لهذه التبعية. مثل هذا النظام قَدَرُهُ السقوط الحتمي لكن تبقى مجموعة عوامل قد تطيل في عمره قليلا.
من هذه العوامل اعتماده على عصبة تحميه مثل الحزب أو الأقلية أو قبيلة يرتبط مصيرهم بمصيره فيكون الدفاع عن النظام ضمانا لبقاء قوة ونفوذ هذه العصبة. ومن عوامل بقائه انتشار الشك بين الناس ومن ثم غياب الثقة التي يقتنع فيها الفرد أنّ ثمة آخرين يقفون معه ضد النظام. ومنها كذلك انتشار الأنانية وانشغال كل فرد بنفسه وغياب الشعور بالمسؤولية الجماعية ومن ثم لا يمكن تشكيل طليعة تتحدى النظام.
ولهذا فإن مصير مثل هذا النظام الذي يعتمد على الجبرية المجردة مرتبط بحالة الشعب واستعداده للتمرد، فإذا كان بين أفراد الشعب من يستطيع أن يشكل طليعة تكسر الحاجز في تحدي الجبرية لن يستطيع هذا النظام الصمود. أما إّذا لم يتوفر هذا الأمر فربما يبقى النظام معتمدا على تراكم زخم الهيبة السابقة مثل الكرة التي تتدحرج وتستمر في التدحرج ما لم تصطدم بما يوقفها.
ما هو مصير الأنظمة العربية بناء على ذلك
معظم الأنظمة العربية إما تقع في الخانة الأخيرة أو تتجه إليها بشكل حثيث. وسنن الله ليس لها تبديل ولا تحويل ولن يقف أمام الانهيار شيء بعون الله. والانهيار هنا ليس للكيان كشعب وثقافة وتاريخ بل هو للأنظمة الحاكمة فقط، وذلك لأن معظم الشعوب العربية لا يزال أساس البناء الديني والثقافي فيها سليما وكل ما تحتاج أن تستكمل فوقه بقية البنيان.
معرفة مستقبل الدولة من خلال عوامل السقوط
تحدث علماء التاريخ والاجتماع أمثال ابن خلدون وتوينبي وول ديورانت وغيرهم عن أسباب سقوط الدول وذكروا الإرهاصات التي تؤذن بهذا السقوط، وتكاد هذه الإرهاصات تكون مجتمعة في معظم أنظمة العالم العربي.
العامل الأول : فشو الظلم إلى درجة تجعله أساس التعامل بين السلطة والشعب وبين مكونات الشعب نفسه. وإذا عجزت المكونات الشعبية عن رد المظالم وحماية الضعيف والمظلوم فلا مفر من سقوط هذه الدولة أو ذلك النظام عاجلا أو آجلا.
العامل الثاني : الانهيار الأخلاقي والقيمي، والمقصود بالأخلاق هنا الصدق والأمانة والوفاء والمسؤولية، وذلك بانتشار النفاق والكذب والغش والخيانة والأنانية.
العامل الثالث : الإباحية والتفكك الاجتماعي وانهيار الأسرة وذلك بتطبيع العلاقات المحرمة والشذوذ، فإذا كانت الأسرة الوحدة الأساسية في بناء المجتمع فإن تفككها خراب أكيد للمجتمع ثم الدولة. ويتسارع الدمار إذا كانت السلطة نفسها تتبنى الإباحية والشذوذ.
العامل الرابع : الانهيار العقدي والقيمي، وهذا قد يتمثل في التخلي عن الالتزام الديني في الدول التي قامت على الدين أو في التخلي عن الالتزام بقيم وضعية بشرية مثل القيم المنسوبة للديموقراطية.
العامل الخامس : هو البطر والترف والذي لا يشترط أن يحصل من قبل غالبية الشعب بل يكفي أن تمارسه الفئة المتسلطة لتفتح الطريق أمام انهيار السلطة أو الدولة.
العامل السادس :هو الاعتماد على غير المؤهلين، وأسوأ من ذلك الاعتماد على الفاسدين المخربين الذين يعتبرون المناصب أداة للمتعة ووسيلة للتحكم بالآخرين وإذلالهم. وفي المقابل إبعاد المخلصين الناصحين أو التخلص منهم بالسجن والقتل لأن وجودهم في المناصب يحرم الحاكم من التمتع بالسلطة المطلقة.
العامل السابع : هو الاستبداد الامتلاكي الذي يجعل البلد كله في خدمة الحاكم فقط. ومصطلح الاستبداد الامتلاكي هو من أجل تفريقه عن الاستبداد الوطني الذي يسعى فيه المستبد لرفع شأن الوطن وليس من شأن نفسه. كلا الأمرين استبداد، وكلاهما مذموم وسيء، لكن الاستبداد الامتلاكي أحرى أن يدمّر الدولة والمجتمع وينهار خلافا للاستبداد الوطني الذي قد يطول بقائه.
العامل الثامن : فرض الضرائب وغيرها مما يجبى من أفراد الشعب دون عائد ملموس مقابل تلك الضرائب. والمقصود بالعائد هو الخدمات والتعليم والصحة والتنمية الناجحة وغيرها مما يُشعر الشعب أن هذه الضرائب من أجله وليست للحاكم أو متعة الحاكم أو لمعالجة أخطاء الحاكم في الديون وتبذير الأموال.
العامل التاسع : هو الاهتمام بالكماليات مثل الرياضة والفن والمبالغة في البناء والزخرفة وفي المقابل إهمال الضروريات والحاجيات مثل التنمية والخدمات وما من شأنه تأمين مصالح الشعب.
العامل العاشر: هو سوء توزيع الثروة وذلك إما بتكديسها في أيدي فئة قليلة من الشعب أو صرفها في وجوه لا تعود بالمصلحة عليه.
قد توجد بعض هذه العوامل في دولة لكن يوجد عامل آخر أو عوامل أخرى تكون سببا في تأخير سقوطها وانهيارها. انتشار الإباحية والشذوذ في أوروبا مثلا يقابله غياب الاستبداد وانتشار العدل وحسن توزيع الثروة والاهتمام بشؤون الرعية والعدل في توزيع الثروة … الخ، أما في أنظمة العالم العربي فتكاد تكون كل هذه العوامل متحققة مما يؤذن بسقوطها قريبا بعون الله.