top of page

٢٨ ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

مسارات الحركة الوهابية

بقلم الدكتور سعد الفقيه

يقف الكثيرون حيارَى أمام فهم الحركة الوهابية، حين يرون ما يبدو تناقضًا فيما يُنسَب إليها من أفكار، ويلاحظون تنافرًا بين تيارات كلها تدَّعي أنها امتداد لها. يُنسب إلى الوهابية أفكار تشبه أفكار الخوارج، وفي المقابل يُنسب لها ما يُشبه أفكار المرجئة، في حين يُصرّ آخرون على أن الوهابية حركة سنية منضبطة بثوابت السلف. وفي نفس السياق يوصَف العلماء الرسميون في السعودية الموالون للسلطة بأنهم محور الوهابية، بينما يَعتبر آخرون الحركات الجهادية المحاربة للسلطات هو الامتداد الطبيعي لها. كيف يمكن حل هذا اللغز وتشريح هذه المفارقات والتناقضات؟


يتداول البعض أن الإشكالية هي في التحيّز مع أو ضد الوهابية، لكن الحقيقة  ليست في هذا التحيز؛ لأن هناك كتابات منصفة ومتوازنة لم تتمكن من حل لغز تلك التناقضات والمفارقات. السبب الحقيقي -والله أعلم- أن معظم الباحثين يتعاملون مع ما له علاقة بالوهابية كمنظومةٍ واحدة ومسارٍ واحد، مما يغلق الباب أمام فهم الصورة كاملة.


ولهذا فإن أفضل طريقة لتناول "الوهابية" هي:

أولا: التأمل الدقيق للتسلسل التاريخي للحركة، وثانيا: فهم علاقتها بالدولة السعودية في مراحلها الثلاث، وثالثا: التفريق بين أدبيَّات الحركة نفسها من جهة وبين ما كُتب عنها سواءً ممن أيّدها أو عارضها. هذا التأمل يرسم خريطة لا علاقة لها بالتأييد أو المعارضة ولا بالمدح أو الذم ، وربما يكون الوسيلة الصحيحة في حل لغز تلك التناقضات والمفارقات.


يتضح من خلال هذا التأمل أن الحركة الوهابية ليست مسارًا واحدًا بل عدة مسارات، وكل مسار له زخمه وتأثيره وتطوره واحتكاكه بالمسارات الأخرى. ومن خلال فهم هذه المسارات وآليات تكوينها يمكن فهم العلاقة المعقدة بين الوهابية وآل سعود والحركات الجهادية والتيارات السلفية بأطيافها. واستكمال هذا التصنيف المنطلق من فهم التاريخ والأدبيّات والظروف يسهّل فهم المفارقات الكثيرة في علاقة الوهابية بالجماعات الإسلامية والحكومة السعودية وبقية العالم. 


المسار الأول (الأكاديمي)

 ويُقصد به الكتب التي ألفها الشيخ محمد بن عبدالوهاب ثم الكتب التي ألفها تلاميذه وأحفاده وتعليقاتهم وإضافاتهم. وهذا المسار هو أكثر المسارات تأثيرا وأوسعها انتشارا؛ لأن الكتب انتشرت في وقت مبكر وخُدمت من قِبل التيارات السلفية عموما في العالم الإسلامي. وتشتمل الكتب على قضايا أصولية مثل: العقيدة والتوحيد وموقف المسلم من غير المسلم وموقف الكيان الإسلامي من الكيانات غير الإسلامية وما الذي يخرج من الملة وطبيعة ومصادر القانون الإسلامي وأهمية الالتزام به وقضايا حساسة أخرى في هذا الميدان.


لا يختلف هذا المسار في الجملة عن الفكر السلفي المنسوب لأسماء كبيرة من علماء السنة في التاريخ الإسلامي مثل: أحمد بن حنبل وابن تيمية وأمثالهم. وبسبب انسجامه مع الطرح السلفي فقد خدمه كثير من المهتمين بالفكر السلفي في العالم الإسلامي منذ الظهور الأول للدعوة الوهابية ثم بعدها. لكن الانتشار الأكبر له حصل بعد توسّع نفوذ الدولة السعودية الحالية وافتتاح الجامعات الإسلامية فيها واستضافة الطلاب من جميع أنحاء العالم ثم مساهمة المواطنين  في بلاد الحرمين بتمويل الدعاة ونشر كتب الدعوة الوهابية أو الكتب السلفية المشابهة.


وحظي هذا التيار بدعم غير مباشر من قبل التيارات الإسلامية الحركية التي تدعو لعودة الهوية الإسلامية وإعادة مجد الإسلام مثل حركة الإخوان المسلمين. ورغم أن الإخوان متّهَمون من قِبل الوهابيين بالتساهل في الالتزام بالسلفية إلا أن الوهابية الأكاديمية وجدت نفسها في النصف الثاني من القرن الماضي في خندق واحد مع الإخوان ضد التيارات المناهضة للإسلام مثل: الشيوعية والاشتراكية والقومية والليبرالية. وساهم في تحقيق هذا التوافق لجوء عدد كبير من الإخوان المسلمين للسعودية هربًا من بطش جمال عبدالناصر في الستينات الميلادية.


لكن الدفعة الحقيقية التي حصلت عليها الوهابية الأكاديمية هي ظهور كتابات سيد قطب وانتشارها بشكل كبير في الستينات والسبعينات الميلادية. لم يعزُ سيد قطب للوهابيين في كتاباته سوى مرة واحدة، إلا أن عددا من القضايا المركزية التي أكد عليها كانت توافق توجُّه الوهابيين. ومما تناوله سيد قطب بشكل صارم قضية الهوية والانتماء واستعلاء المسلمين ووجوب هيمنتهم على غير المسلمين والاحتكام للشريعة دون غيرها من القوانين وضرورة الاقتداء بالنموذج الأول الفرد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والنموذج الأول كمجتمع وهو مجتمع الصحابة. 


كما أكّد «سيد» على أن المجتمعات الإسلامية  الحالية -وإن كان أهلها مسلمين- فإنها تعيش في حالة جاهلية، وهو توصيف لا يختلف كثيرا عن توصيفات الوهابيين. ومع أن بعض آراء سيد في قضايا العقيدة الأخرى تعتبر مخالفة للطرح السلفي الوهابي ألا أن التأثير الكلي أقوى بكثير من التحفُّظ الجزئي.


المسار الثاني (التاريخي)  

ويُقصد به الممارسات العملية التي مارسها ابن عبدالوهاب والدولة السعودية الأولى والتي وُثِّقت في كتابين مشهورين هما تاريخ ابن بشر وتاريخ ابن غنام. واشتمل التوثيق على تفاصيل الأحداث والتصرفات والقرارات والمواقف وكذلك توثيق مراسلات مكتوبة بين ابن عبدالوهاب وقيادات الجيش الوهابي وبينه وبين القوى الأخرى.  وعند قراءة تفاصيل هذه الممارسات والمراسلات ُيلاحَظ تساهل في التكفير الجماعي واستحلال الدماء بطريقة ربما لا تتفق مع ما جاء في الكتب المذكورة في المسار الأول.


ولم يُكتب لهذه المحتويات الانتشار مثل انتشار الكتب في المسار الأول، وبقيت إلى عهد قريب محصورة في دائرة الباحثين والمؤرخين فقط. لكن ظهور التيارات الجهادية أدّى ببعض الباحثين إلى ربط ممارسات الوهابيين بممارسات التيارات الجهادية فتوسّع الاهتمام بها وصار تداولها منتشرا بعد أن كان محصورا عند المؤرخين. 


ولوحظ أن هذه الممارسات مثل التكفير وسفك الدماء قد تكررت في بداية تكوين الدولة السعودية الحديثة على يد الملك عبدالعزيز من خلال "إخوان من طاع الله"، الذين كان غالبيتهم محدودي المعرفة ومفصولين عن المجتمع الحضري المتعلم ومشغولين جدا بالـ"جهاد". وقد استفاد منهم الملك عبدالعزيز في توسيع دولته قبل أن يقرر التخلص منهم ويقضي عليهم.


التجلّي التالي للمسار التاريخي بعد "إخوان من طاع الله" هو أزمة الحرم المكي سنة  1979 بقيادة جهيمان العتيبي. صحيح أن شعار هذه الأزمة هو "المهدي" إلا أن البواعث النفسية في رفض انحراف آل سعود عن الدين ومواجهتهم بالسلاح هو الأساس في تشكل هذه الجماعة بنفس طريقة تفكير "إخوان من طاع الله" . ولم يكن لهذه الحركة تأصيل شرعي شبيه بالمسار التاريخي، لكن إرثها النفسي والصدمة الحضارية التي تركتها وضعت الأرضية كي تساهم في صناعة المسار الثالث للوهابية وهو المسار الوراثي.


وحديثا حصل تجلٍّ آخر لهذا المسار وذلك في التيارات الجهادية وتحديدا في حركة "داعش" التي عُرف عنها التساهل في التكفير واستحلال الدماء. وهذا لا يعني أن داعش نشأت لأن قياداتها تأثروا بالمدونات التاريخية للوهابية بل هي نشأت لأن الظروف الجيوسياسية التي دفعت لإنشائها شبيهة بالظروف التي نشأت فيها الحركة الوهابية. ثم بعد نشأتها وتمكنها لجأ عدد من المنظّرين فيها لاستدعاء التاريخ الوهابي لإثبات وجود مثال سابق يضفي على تصرفاتهم الشرعية، وفي المقابل لجأ خصومهم لنفس الحيلة لإثبات تطرف الدولة السعودية الأولى.


ومما ينبغي الإشارة إليه أن المسار الأكاديمي ليس مفصولا عن المسار التاريخي بل كان بينهما منطقة مشتركة تدل على إقرار بعض العلماء في وقتها لهذه الممارسات دون أن تُذكر في أدبيّاتهم. وهناك من يدعي أن هذا الارتباط براغماتي استفادت منه الدولة السعودية الأولى لإقناع جيشها بمقاتلة الخصوم بهمة وحماس، وهو كذلك نفس السبب في تجييش "إخوان من طاع الله" في بدايات الدولة السعودية الحديثة. 


المسار الثالث ( الوراثي) 

ويُقصد به تسلسل أجيال التلاميذ الذين يَنسبون أنفسهم مباشرة لهذه الدعوة، والذي بقي ملتزما بالتوجه الأصلي على مدى القرن التاسع عشر، ثم تحول تدريجيا إلى مؤسسة مملوكة للسلطة تنفذ أوامرها. بعد ظهور الدولة السعودية الثالثة تمكّن الملك عبدالعزيز من احتواء العلماء وتغيير أولوياتهم إلى القضايا الاجتماعية وعلاقة الرجل بالمرأة والممارسات الفردية للناس ونَزَع منهم كل السلطات السياسية أو التدخل في السياسة. ثم نجح الملوك بعده من تحويل الأجيال الأخيرة من علماء هذا التيار إلى مؤسسة دينية جُل اهتمامها تطويع الشعوب للحكام. بل تمكَّنت الحكومة السعودية من تحويل العلماء الحاليين من مدافعين عن المبادئ التي ركّزت عليها الأجيال السابقة وخاصة تحكيم الشريعة والولاء والبراء إلى محاربين لها. 


يشترك هذا المسار مع المسار الأكاديمي في إعطاء الشرعية للحاكم غير المنتخب (وهي مدرسة معروفة عند أهل السنة)  لكن يختلف معه في وجوب توفّر أركان الإمامة في ذلك الحاكم والتي تتضمن هيمنة الشريعة وإقامة علاقات الدولة على أساس إسلامي وضمان منع المحرمات بقوة السلطة. يرى المسار الأكاديمي أن الحاكم الذي لاتتوفر فيه هذه الشروط لا شرعية ولا طاعة له، ويرى المسار الوراثي أن الحاكم له كامل الشرعية والطاعة ما دام يدعي الإسلام ويقيم الصلاة.


ورغم هذا التخلي عن مبادئ الوهابية الأولى يصر عناصر هذا المسار أنهم الوريث الحقيقي للدعوة الوهابية ويدعمون حجتهم ببيان سلسلة التلاميذ التي تنتهي بمحمد بن عبد الوهاب، ووجود عدد كبير من أحفاد محمد بن عبدالوهاب الحقيقيين بين صفوفهم، في مقدمتهم المفتي الحالي للسعودية.


وقد خُدم هذا المسار بقوة من قبل الحكومة السعودية داخل البلد وخارجها، وذلك باستخدام الإعلام والتعليم والدعم السياسي والأمني والمالي للقيادات الدينية التي تتبنى هذا النهج ،إضافة لقمع من يخالفهم. كما أقنعت الحكومة السعودية حكومات عربية وإسلامية أخرى بفائدة هذا التوجه الذي انتشر في عدد من الدول العربية تحت مسمى "الجامية" نسبة إلى محمد أمان جامي أو "المدخلية" نسبة إلى ربيع المدخلي، اللذان بذلا جهدا كبيرا في نشر هذا المنهج. ولا يمثل هذا التيار خطرا على الحكومات العربية والإسلامية ولا على الحكومات الغربية، بل بالعكس تفرغ كثير من أتباع هذا التيار لدعم الحكومات ومحاربة التيارات الجهادية وحتى التيارات الإسلامية التي لا تتبنى العنف مثل الإخوان. ومن الطريف أن موقع وزارة الخارجية الأمريكية وحساباتها في التواصل الاجتماعي تنشر بيانات وفتاوى هذا المسار.


كيف ظهر اختلاف هذه المسارات؟

كانت أزمة الكويت١٩٩٠ أول حدث تاريخي يجعل المسار الأكاديمي والمسار الوراثي للوهابية في صدام مباشر. كان العلماء المستقلون وبعض التيارات متشبّثون بالمسار الأكاديمي للوهابية، ومن خلاله يرون الحضور الأمريكي اعتداءً على حرمة أرض إسلامية ولها قدسية خاصة بصفتها الجزيرة العربية، بينما يرى المسار الوراثي أن الحاكم المسلم (الملك فهد في وقته) له الحق في استدعاء أي قوة إسلامية أو غير إسلامية لمساعدته في حماية البلد. 


وخلال السنوات التالية أضاف العلماء المستقلون للأدبياّت المرتبطة بهذه القضايا كمية ضخمة من التأصيل الشرعي المستمد من التراث السلفي عموما ومن المسار الوهابي الأكاديمي خصوصا. ومع تضخم هذه الأدبيات تضخمت كذلك الهوة بين التيار الأكاديمي والتيار الوراثي حتى أصبح الطرفان في حالة حرب كلامية. وكانت الغلبة في البداية للتيار الحكومي الوراثي بسبب الدعم الإعلامي والأمني وفي المقابل قمع الطرح المخالف حتى لو كان سلميا. لكن بعد انتشار الانترنت ووسائل التواصل تغيرت المعادلة وتمكّن أصحاب الطرح الرافض لعمالة الحكّام من كسر الاحتكار وموازنة المسألة. ونظرا لأن كلا الطرفين يعتبر المرجع في الجدل هو الطرح السلفي والفكر الوهابي فغالبا ما ينتصر الفكر المناهض للحكّام لأن التقنية الحديثة توفّر الأمان وتبعد قبضة السلطة فيسهل استخدام نفس مرجعية الوهابية ضد علماء السلطة. 

التوزيع الحالي للمسارات الثلاث 


لا يكاد يوجد مكان في العالم الإسلامي إلا وينشط فيه التوجه الوهابي، بل حتى خارج العالم الإسلامي بين الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية. ويتنافس المسار الأول مع الثالث في الهيمنة على توجه المجتمعات ويبقى المسار الثالث مع الحكومات. وبينما ينتشر المسار الأول بشكل تلقائي تبعا لانتشار السلفية فإن المسار الثالث ينتشر بشكل مفتعل بسبب دعم الحكومات حيث ازداد أتباعه بسبب هذا الدعم عدة أضعاف في بلدان كثيرة مثل السعودية ودول الخليج ومصر وليبيا والجزائر وحتى المسلمين في بريطانيا. أما المسار الثاني فلا يشاهد إلا في الأماكن التي تنشط فيها جماعات تتساهل في التكفير وسفك الدماء.


مستقبل المسارات الثلاث

تبعا للتوسع الهائل في استخدام وسائل التواصل يبدو أن الغلبة ستكون للسلفية الأشمل من الوهابية وذلك لأن التوجه بين السنة عموما يتزايد تجاه كل الأطروحات السلفية واعتِبارها مراجعَ معتبرة وتحاشي تقديس مدرسة محددة داخل الإطار السلفي مما سيجعل الأدبيَّات الوهابية واحدة فقط من عدة مدارس سلفية كثيرة وهو ما سيقلل من دورها التربوي. وهذا لا يُعتبر هزيمةً للمسار الوهابي الأكاديمي بل هو أقرب لتطهيره من أي تجاوز للخط السلفي العام.


أما المسار الثاني فقد لوحظ تاريخيا أن نماذجه المتمثلة في "إخوان من طاع الله" وحركة جهيمان وداعش انتهت بطريقة دراماتيكية مفاجئة. وربما يفسَّر ذلك أن هذا المسار أقرب للتوجه الطائفي الفئوي (Cult) منه لتيار عام، وذلك لأنه لا يناسب إلا أفرادا بنفسيّة وعقلية معينة في ظروف معينة، ولهذا فإن تكرر ربما ينتهي بنفس الطريقة.


أما المسار الثالث فربما ينحسر الدعم الحكومي له بسبب الإحراج الدعائي، وذلك لأن هذا المسار لا يستطيع أن يتبرأ من عدائه للشيعة وبقية المذاهب غير السنية وتشدده في كثير من الفتاوى المرتبطة بالحياة الاجتماعية، وهي أمور تحرج الحكومات. وسبب آخر لانحساره أن بعض الحكومات تعتبر نفسها قد استغنت عنه الآن بعد حملة التغريب الحديثة وما أن تستغني عنه الحكومات ينهار لأنه مصطنع لخدمة تلك الحكومات.


bottom of page