٢٨ شعبان ١٤٤٥ هـ
من حصار الخندق إلى غنائم كسرى
هل يتكرر المشهد بعد أحداث غزة؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابة بالنصر على كسرى وقيصر، وهم في أصعب حال من الحصار في الخندق، فقال المنافقون ألا تعجبون يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل. ولم يمر عقد من الزمن حتى دخل المسلمون إيوان كسرى فاتحين وسيطروا على كافة أراضي قيصر في الشام.
يشعر الكثير من المشفقين على وضع الأمة باليأس وهم يرون تسابق الأنظمة في الخيانة والعمالة والحرب على الدين وتدمير الأخلاق والقيم. ويزداد إحباطهم حين يرون تماسك هذه الأنظمة والسطوة الهائلة لأجهِزتها القمعية، وتمتعها بالدعم الإقليمي والعالمي، في مشهد يوحي بأنها باقية ومتجهة إلى مزيد من الخيانة والعمالة وإبعاد الناس عن دينهم.
لكن تأمّلاً عميقا في هذا المشهد عبر فهم السنن الكونية وثوابت التاريخ يعطي انطباعاً آخر هو أقرب إلى اقترابنا من فرج كبير ومربك لكل الأعداء. ومن خلال هذا التأمّل ربما يتبين أن هذا النظام الإقليمي، الذي يبدو متماسكا، إنما هو قائم على ركائز هشة، إذا انكسر أحَدها انهار كل النظام حيث لا يستغني جزء منه عن الآخر في تماسكه وبقائه. وحتى يتضح المقصود لا بد من مراجعة مكونات هذا النظام ثم دراسة عوامل استمرارِه ونقاط هشاشته.
وحدات النظام
تشتمل وحدات النظام على الدول الأساسية المؤثرة في المنطقة وهي أمريكا وروسيا وإيران وإسرائيل والدول العربية وأهمها مصر والسعودية والأردن وسوريا والإمارات. ولا يمكن لهذا النظام الإقليمي أن يبقى متماسكا إلا باستقرار وقوة كل هذه الدول، وأي اضطراب في واحدة منها يؤدي إلى انهيار كل المنظومة.
أمريكا
لا تزال أمريكا قوةً عالمية لا تُنافَس، ولا يزال نفوذها هو الأقوى في المنطقة، ولا شك أن بقاء الأنظمة في المنطقة وقوتها مرهون بنفوذ أمريكا. والضمان الأمريكي لبقاء الأنظمة لا يقتصر على الدول العميلة لأمريكا مثل إسرائيل ومصر والأردن ودول الخليج، بل يندرج على سوريا والعراق وإيران نفسها. والسبب هو أن هذه الدول غير قادرة على مواجهة الجهاد السني دون تفاهم مع أمريكا، مما يجعل أمريكا حجر الرّحى في المنطقة كلها.
ولو عجزت أمريكا عن التأثير في المنطقة او اضطرت للتفريط ببعض نفوذها أو صار التحدي أكبر من قدرتها فحينها سينفرط العقد وتبدأ سلسلة من الأحداث تؤدي إلى تغيير شامل. وعَجز أمريكا عن التأثير في المنطقة لا يحتاج إلى انهيارها بل يكفي انشغالها بنفسها أو بجبهة أخرى أو اضطرارها للتخلي عن عملائها إذا تورطت في مواجهات أخرى.
ومن الأدلة على خلل كبير في الكيان الأمريكي أنها بسكانها الثلاثمائة مليون عاجزة أن تتجاوز خيارين للرئاسة أحدهما مصاب بالخرف وفاقد للأهلية العقلية، والآخر كذّاب فاسد خائن للمسؤولية. الحزب الديموقراطي بكل حجمه وتاريخه وعراقته مضطر لترشيح مخرّف هرم، والحزب الجمهوري بحجمه وتاريخه وعراقته مضطر لترشيح سيكوباثي يضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة أمريكا. وحتى لو حصل ما يمنع وصولَهما للرئاسة فليس للأمريكان خيار بعدهما إلا أن تقودهم امرأة ساقها القدر رغم أنوفهم.
وسوى ذلك فإن أمريكا مقبلة على تحديات داخلية وخارجية كبيرة ربما تجعل من الصعب عليها إبْقاء نفوذها في المنطقة. من التحديات الداخلية الانقسام الذي أحدثه ترمب في المجتمع الأمريكي وسيطرته على الحزب الجمهوري، ومنها تعاظم الدين القومي وتلاعب الأحزاب بمسألة الموافقة على زيادة الدين، وغيرها من التحديات الداخلية.
ومن التحديات الخارجية تعاظم نفوذ الصين وخطرها على تايوان والتقدم الروسي في أوكرانيا واتفاق المزيد من الدول على الاستغناء عن الدولار كعملة بينيّة، فضلا عن تحدي إيران وأذرُعها في المنطقة.
إسرائيل
إسرائيل هي أم المشاكل في المنطقة، ومن أجل بقائها بذل الغرب كل الجهد لإبقاء الطغاة حكاماً على العالم العربي، وتآمر معهم من أجل إزاحة الإسلام والعروبة من قلوب الناس. لكن إسرائيل رغم قوتها العسكرية والتقنية لا تزال تعتمد كليّا على عاملين، الدعم الغربي والخيانة العربية. والدليل على ذلك هذا التحدي الوجودي لها من قبل فئة قليلة في بقعة صغيرة محاصرة حصارا محكماً منذ عدة سنوات .
هذه الحقيقية حولت إسرائيل إلى دولة "ظرفية"، أي معتمدة على توفر ظروف من خارجها للبقاء كدولة، فما أن تنقلب هذه الظروف حتى تنتهي كدولة. ربما تستغرق نهايتها بعض الوقت لكنها لن تستطيع البقاء بعد زوال هذه الشروط. وأي حدث يؤدي إلى بداية انطلاق زوال إسرائيل إنما يبعث سلسلة من الأحداث في المنطقة فيها تغيير شامل لكل المنظومة.
وكون إسرائيل دولة "ظرفية" لا يعني أنها لا تسقط إلا بزوال هذه الظروف، بل من الوارد أن تنهار لأسباب داخلية قد لا تكون مرتبطة بهذه الظروف. وإسرائيل لديها مشاكل بنيوية قد تؤدي إلى انهيارها قبل أن يعجز الغرب والأنظمة الخائنة عن حمايتها.
المشكلة الأولى هي انتشار النزعات الفئوية في المجتمع الإسرائيلي وعجز الجيل الجديد عن إدراك التحديات الحقيقية، مما أدى لانقسام كبير في المجتمع الإسرائيلي.
المشكلة الثانية هي الغطرسة الفجة، والتهور في استغلال الحماية الأمريكية بطريقة تستفز العالم كله وتُفقِد الإسرائيليين التعاطف العالمي الذي كانوا يتمتعون به حين كان حكامهم يتفادون هذه الغطرسة ويتَظاهرون بالطيبة والتواضع.
المشكلة الثالثة هي عمق الهاجس الأمني في إسرائيل، مما أدى إلى حالة رعب عامة في إسرائيل بعد طوفان الأقصى، دفعت أكثر في تزايد الهجرة المعاكسة ومن ثم عدم قدرة عَجز الدولة على توفير عناصر القتال الكافية.
المشكلة الرابعة هي رفض القيادة الإسرائيلية إيجاد وضع مقبول للمناطق المحتلة يعطي الأنظمة العربية العميلة، وخاصة السلطة الفلسطينية، ذخيرة تسحب بها الحاضنة الاجتماعية من المقاومة.
المشكلة الخامسة هي أن جذوة المقاومة الفلسطينية تقوى وتتعاظم رغم كل جهد الغرب والأنظمة العربية العميلة للقضاء عليها، لكن المقاومة تمكنت من إفشال تلك الجهود مستفيدة أولا من التشبث بالمظلة الإسلامية وثانيا باستثمار القمع الصهيوني المبالغ فيه.
وحين تستغل المقاومة تفاقم هذه الأسباب وتنهار إسرائيل تحت ضرباتها فإن هذا بذاته سيكون انطلاقاً لتغيير كبير في المنطقة حتى لو بقي الغرب قويا وداعماً للأنظمة العربية العملية ومتفاهماً مع الروس والإيرانيين. وذلك لأن الكيان الإسرائيلي جرى تعظيم هيبته حتى بدا إلها أمام هذه الانظمة العميلة، وإذا سقط هذا الإله فسوف تنهار بالضرورة هيبة كل هذه الأنظمة.
مصر
تؤدي مصر السيسي دورا مهما وأساسيا في حماية إسرائيل، وتحظى في المقابل على دعم الغرب وعملائه في الخليج. والنظام المصري متماسك بسبب قدراته القمعية الجبارة، لكن هل يستمر هذا التماسك مع تفاقم الوضع الاقتصادي والفشل الذريع في كل مرافق الدولة؟
المواطن المصري لا يحصل حالياً على أي شيء من مهمات الدولة المعروفة، ولا يرى إلا التسلط القمعي. صحيح أن النظام قادر على البقاء، ومن ثم خدمة إسرائيل، لكن الثمن الذي يدفعه الغرب وأنظمة الخليج من أجل بقاء النظام يتعاظم بتسارع خطير. والفريق الذي يدير البلد في مصر لا يدرك أن هذا الثمن سوف يصل إلى مرحلة يعجز فيها الغرب والخليج عن حماية النظام.
الأسباب الدافعة للثورة حاليا أقوى من ثورة ٢٥ يناير، فالحالة الاقتصادية بائسة والجنيه المصري ينهار، والأسعار ارتفعت عشرات الأضعاف وغيرها من الأسباب ، لكن استعدادات السلطة للقمع أقوى مما كانت عليه. هذا التوازن بين أسباب الثورة ودرجة القمع ربما يصل لمرحلة تتفوق فيها أسباب الثورة على درجة القمع، أو تضطر جهة مسلحة لتخليص الشعب من هذا الواقع السيء خوفا من أن ينتقم منها الشعب لو اندلعت الثورة. وانهيار النظام المصري يعني فتح باب الجحيم على إسرائيل ومن ثم سلسلة من الأحداث فيها خلخلة لكل المنظومة الإقليمية.
السعودية
تعتبر السعودية مكونا أساسيا في بقاء النظام الإقليمي، وقد جعلت ثقلها المالي والديني ومقدراتها وموقعها الجغرافي في خدمة أهداف أمريكا في المنطقة. والسعودية، رغم مقدراتها الدينية والمادية، ليس فيها عوامل استقرار ذاتية، وهي معتمدة كليا على تماسك النظام الإقليمي مما يجعل انهيار النظام السعودي حتمياً إذا حصل أي تخلخل في هذه المنظومة.
في المقابل تُحكم السعودية حاليا بقيادة صبيانية متهورة، مستفزة للشعب في دينه ومعاشه، وتدير البلد بسياسة طائشة، وقرارات لا يمكن التنبؤ بها مما يجعل فرصة التغيير واردة في البلد سواء بتمرد داخلي أو بمواجهة مع أحد الجيران. وانهيار النظام السعودي سوف يكون من أقوى عوامل "تأثير الدومينو"، وذلك لأن بقاء الوضع في اليمن ومصر والعراق وسوريا والأردن والسلطة الفلسطينية على ما هو عليه يعتمد كليا على نفوذ سعودي تحت خدمة أمريكا.
الإمارات
تختلف الإمارات عن السعودية كونها لا تمتلك مقومات الدولة، بل هي كيان مصطنع لا يشكل فيه المواطنون إلا خمس السكان (طبقا للإحصاءات الرسمية ويقال ٥٪ في الإحصاءات غير الرسمية)، ولا يتجاوز وصفها سوى أنها مخزن مالي كبير يديره مجموعة من الشياطين لتنفيذ رغبات إسرائيل وأمريكا في محاربة الإسلام والعروبة. هذا الوضع المصطنع يعتمد كليا على استقرار النظام الإقليمي وليس له فرصة في البقاء لو تخلخل هذا النظام.
ربما لا يوجد خطر داخلي على النظام بسبب قلة الشعب وتوفر المال، لكن تركيبة النظام الداخلية واعتماده الترف المطلق تجعله عرضة للانهيار بأضعف أنواع الاستهداف من أي جهة إقليمية أو جماعة مسلحة. وانشغال النظام الإماراتي بنفسه يعني زوال أثره في اليمن وليبيا والسودان ومصر وإلى حد أقل العراق وسوريا والأردن. وسيكون من الطبيعي أن يترتب على ذلك "أثر الدومينو" المذكور سابقا.
إيران وتوابعها
تحولت إيران خلال السنوات الأخيرة من خلال تخطيطها الاستراتيجي واستغلال الفرص إلى دولة إقليمية عظمى وصار نفوذها منافسا للنفوذ الأمريكي والروسي. وإيران تتحكم الآن كلياً بالعراق وجنوب لبنان، وجزئيا بسوريا واليمن، ولها حضور كبير في الطائفة الشيعية في الخليج وباكستان وأفغانستان.
ورغم التململ الشعبي الواسع في إيران ألا أن النظام ممسك بكل القوى الصلبة، ولا يكترث بعوام الناس ما دام لديه عدد كاف ممن يعتمد عليهم من المؤمنين بمشروع "ولاية الفقيه". والنظام الإيراني ليس مثل الأنظمة العربية التي تمارس الاستبداد الامتلاكي بل هو نظام برؤية واستراتيجية، ونجاح عسكري وسياسي واستخبارِي، وقدرة على تحمل الحصار، ومهارة في التلاعب بعملاء أمريكا في المنطقة.
ورغم نجاح إيران في مدّ هذا النفوذ فإنها معتمدة كليا في إبقاء نفوذها على بقاء التوازن الهش في تقاطع المصالح مع أمريكا و تحاشي الصدام مع إسرائيل. وأي خلخلة في هذا التوازن تعني مواجهة شاملة وخسارة لكل هذا النفوذ ودمار واسع داخل إيران. هذه المواجهة ، لو حصلت، ستكون أقوى السيناريوهات في تغيير المنطقة، وسوف تؤدي إلى زوال عدة أنظمة دفعة واحدة، ثم إعادة ترتيب المنطقة بعد مرحلة طويلة من الفوضى. ومن المفارقات أن أمريكا لو اضطرت للصدام الشامل مع إيران لن تجد غضاضة في التحالف مع الجهاد السني كما فعلت في الثمانينات ضد الاتحاد السوفياتي.
روسيا
قد يبدو دور روسيا محصورا على سوريا فقط، لكن الحقيقة إن مواجهة روسيا مع أمريكا بعد حرب أوكرانيا دفعتها لأن تكيد لها في كل مكان حتى داخل أمريكا نفسها. والمواجهة في أوكرانيا لا تزال ذات تأثير محدود على المنطقة لكنها في طريقها للوصول لمرحلة "كسر العظام" حيث من المتوقع أن ترمي أمريكا بثقلها في الدفاع عن أوكرانيا وترمي روسيا بثقلها في مواجهة أمريكا.
لا يمكن التنبؤ بوسائل الطرفين لكن بوتين يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة ولن يكون مستغربا منه تغيير التحالفات والوقوف مع مسلحي الثورة ضد النظام في سوريا ومن ثم دفعهم نحو فلسطين. كما يمكنه تغيير اتجاه مجموعة فاغنر في السودان وليبيا ضد مصالح أمريكا والإمارات.
احتواء العداوة
هناك حرب باردة بين أمريكا وروسيا، ومع ذلك فقد تقاطعت مصالِحهما في سوريا ضد الثورة وتمكّنتا من احتواء العداوة. وهناك حرب باردة أخرى بين أمريكا وإيران، ومع ذلك فقد تقاطعت مصالِحهما في مواجهة الإسلام السني، ومن ثم امتصاص كل حالات الاحتكاك رغم خطورتها. وهناك توتر آخر بين إسرائيل وإيران تتكرر فيه المناوشات، لكن الطرفين حريصان على تفادي المواجهة الشاملة.
هذا الامتصاص والاحتواء وتفادي المواجهة عرضة للانهيار في أي لحظة لأنه قائم على توازنات هشة ومصالح لن تصمد أمام مجازفة غير محسوبة أو عمل متعمد يقدم عليه أحد الأطراف يقصد به إزالة هذا التوازن. ولا يمكن بعد انهيار هذا التوازن أن يعود كما كان لأن الأحداث المترتبة عليه لا يمكن العودة بها إلى الوراء.
الجيوب المتمردة
رغم نجاح الثورة المضادة فإن جيوباً لا تزال مستعصية في سوريا واليمن وليبيا فضلاً عن فلسطين. هذه الجيوب ليست شراذم مشردة أو طوائف منبوذة بل هم جماعات حقيقية قادرة على التحرك عند أي خلخلة في النظام الإقليمي والتحول إلى قوة بمستوى قوة دول.
بقايا الثورة في سوريا
رغم المؤامرة العالمية ضد الثورة السورية فلا يزال فيها جزء كبير سليم ومنظّم ولديه عدد جيد من الكوادر وكمية كافية من السلاح ومن ثم قدرة على هزيمة النظام. لكن الذي يمنعه من ذلك هو ما أشير إليه من تفاهم الأعداء ضد الثورة السورية، حيث اصطف النظام السوري وإيران وروسيا وأمريكا وكل الدول والتيارات السورية التابعة لهم ضد الثورة.
واللحظة التي ينهار فيها هذا التوازن سيفتح الطريق أمام هذه الفئة لتَكتسح النظام ويكون هذا الأمر سببا في سلسلة تغييرات في المنطقة. وحين تتحرك هذه الفئة بالاتجاه الصحيح في لحظة اختلال هذه المنظومة فسوف ينضم لها كثير من الذين منعتهم سطوة النظام الإقليمي ومن ثم تتضاعف الكوادر والقدرات اللوجستية والفنية.
أهل الخير في اليمن
حال اليمن فيه تشابه مع سوريا من جهة تفاهم الأعداء لمنع أهل الخير من التمكين. تقاطعت مصالح السعودية وإيران والإمارات وأمريكا وحلفاء كل منهم ضد جماعات معروفة بنزاهة منهجها وانتمائها. لم تتمكن هذه الدول من استئصال هذه الجماعات لكن نجح تقاطع المصالح في حصارها ومنعها من استغلال الفرصة بإحداث خرق في هذه المنظومة الإقليمية.
هذه الجماعات عددها كبير وتسليحها جيد لكنها مبعثرة جغرافيا وعاجزة لوجستيا و تلاقي صعوبة في التواصل وإحكام القيادة والسيطرة. وحين ينهار التوازن الإقليمي بين الأعداء فإن هذه الجماعات قادرة على تجاوز هذه الصعوبات وقلب ولاء كثير من المحسوبين على القوى الإقليمية لصالح مشروعهم.
الجماعات المخلصة في ليبيا
تمثل ليبيا نموذجا آخر من نماذج تفاهم القوى العالمية والإقليمية في محاصرة المخلصين لهَويتهم وعقيدتهم وحملهم المسؤولية العربية والإسلامية. القوى التي يقودها "حفتر" ليس لها من المقومات الذاتية شيء، لا في الكوادر ولا في القيادة، ولولا الدعم السعودي والإماراتي والروسي والرضى الأمريكي والأوروبي لما تشكلت أصلا، فضلا عن أن تتقدم وتسيطر على جزء كبير من ليبيا.
والجزء الآخر من ليبيا الخارج عن سلطة حفتر ليس مبرءاً من الخضوع لهذه القوى، لكن مواجهة حفتر اضطرته لأن يوفرهامشاً لجماعات فيها عدد كبير من المخلصين لهَويتهم وعقيدتهم. وحال هذه الجماعات ليس بعيدا عن حال إخوانهم في اليمن من حيث البعثرة الجغرافية والعجز اللوجستي وصعوبة التواصل. وبمثل الحالة السورية واليمنية فإنه في اللحظة التي ينهار فيها التوازن الإقليمي لن تجد هذه الجماعات صعوبة في التشكل بقوة واحدة ينضم لها عدد كبير من الذين منعهم سطوة التفاهم الإقليمي.
حالة الشعوب
كيف تبدو الشعوب العربية في نظرتها للحكام الآن مقارنة بأحوالها التي أدت للربيع العربي؟ وهل سكوت الشعوب حالياً، وغياب الثورات دليل على أن أسباب الثورة التي أدت للربيع العربي غير موجودة؟ الإجابة يتنَازعها عاملان، الأول نظرة الشعب للسلطة والدولة والثاني درجة الخوف من تبعات التحرك.
رغم قيامهم بالثورة فقد كانت الشعوب قبل الربيع العربي أقلّ كُرها للسلطات وأكثر قبولاً بمصداقية الدولة، ومع ذلك تحركت لأن درجة الخوف أقل بكثير مما هي عليه الآن. أما الآن فمن المفارقة أن الشعوب أشد كُرهاً للأنظمة وقد كفرت بمصداقية الدولة، لكن يمنعها من التحرك تزايد الخوف من القمع بعد أن ضاعفت الأنظمة قدراتها القمعية وتعاونت بينها في محاصرة الشعوب. وإذا خسرت الأنظمة قناعة وعاطفة الناس وانحسرت أسباب بقائها، فإن القمع المجرد لا يمكن أن يبقيها وسوف تنهار عاجلا أو آجلا.
هذه الانظمة ليست مستبدة استبدادا وطنياً يسعى لقوةٍ حقيقية للدولة عسكريا وسياسياً وتطوراً تقنياً وخدماتياً وأمنياً، ولو كانت كذلك لتحمّلت الشعوب قمع السلطة من أجل قوة الدولة وازدهارها. مشكلة هذه الأنظمة أن استبدادها وتسلطها هو لمصلحة فريق الحكم فقط مع التفريط بكل مقومات الدولة وهويتها وسيادتها واستقلالها.
هذا النوع من الدول التي تعتمد على الاستبداد الامتلاكي يؤكد التاريخ حتمية سقوطها وعجزها عن البقاء. وحتى لو لم تندلع ثورة في أي من هذه الدول فإن أول خلل في المنظومة الإقليمية سيرفع معنويات الشعوب ويجعل السلطات في معظم هذه الدول في حالة هشة قابلة للانهيار.
النتيجة
بعد هذا الاستعراض يتبين أن المنظومة الإقليمية، رغم تماسكها وتعاونها ضد الإسلام والعروبة، إلا أن ثغراتها متعددة وفرص الصدام فيها كثيرة والتغيير المترتب على ذلك سيكون هائلاً. أيا كانت الثغرة التي سوف يُؤتى النظام الإقليمي من قبلها، وأيا كان شكل الصدام الأول، وأيا كان مسار الأحداث بعد ذلك، فإن النتيجة واحدة وهي زوال إسرائيل وسقوط الأنظمة ونهاية الهيمنة الغربية والإيرانية وصعود القوى الإسلامية رغم أنف الجميع، والله أعلم.