top of page

٢٥ محرم ١٤٤٥ هـ

هل يكون سنّيّا من لا يلتزم بثوابت أهل السنة؟ (١)

بقلم الدكتور سعد الفقيه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.


تنبيه

المقصود بأهل السنة هنا هو الذين يرون أنفسهم امتدادا للصحابة والتابعين بثوابت محددة ومنهج محدد في مقابل فرق كثيرة منها الشيعة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والباطنية ومن يتفرع عنهم. وهذا التوضيح ضروري حتى لا يتبادر إلى الذهن المتداول عند كثير من الناس أن أهل السنة هو المقابل للشيعة.


التمرد القديم والتمرد الجديد

التمرد على منهج أهل السنة ليس أمرا جديدا، بل ظهر في وقت مبكر في التاريخ الإسلامي متمثلا في الخوارج في عهد علي رضي الله عنه ثم المعتزلة في بداية عهد التابعين ثم الفرق الأخرى بتفرعاتها المختلفة، والتي تفاوتت في طيف يبدأ قريبا من أهل السنة وينتهي بالخروج من الملة. وفيما عدا الأشاعرة فإن الذين ينتمون لهذه الفرق يصرّحون بانتمائهم لمنهج مختلف وفرقةٍ غير أهل السنة ويؤكدون على النأي بأنفسهم عن منهج أهل السنة.


الظاهرة الجديدة هي في أفراد وتيارات يتمرّدون على منهج أهل السنة لكنهم يصرّون على الزعم أنهم داخل دائِرتهم ويرفضون التشكيك في انتمائهم لأهل السنة. وقد تتعدد أسباب هذا التمرد لكن أغلبيتهم مما يسمى بالتنويريّين المبهورين بالفكر الغربي الذين يريدون أن يطوعوا الإسلام للانسجام مع هذا الفكر ظنا منهم أن في هذا خدمة للإسلام ولا يدركون أنهم يتجرأون على ثوابت أساسية في الدين، بسبب انغماسهم بمنهجية تأخذهم بعيدا عن هذا الالتزام.


ومن العدل القول أن هذا التيار ليس نسقا واحدا، بل هو طيف يتفاوت في جرأته على الثوابت، يمتد من متحفظ حذر يظهر بوضوح أنه قلق يشعر بالخطيئة، وبين جريء يتهكم ببعض هذه الثوابت وكأنه زنديق. ومن العدل كذلك الإشارة إلى أن الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية، تختلف من شخص أو من بلد لآخر. بعضهم يعيش في جو من الجهل والتراكمات الفكرية المغلوطة، والضغوط الاجتماعية والسياسية، والجرأة على الدين، وقلة المتدينين، مما يدعو لتفهّم ما يقع فيه، والآخر يعيش في جو فكري واجتماعي خال من الضغوط، وفي وسط غزير العلم لا يمكن أن يساق له فيه عذر.


هذا التوجه له تفسيرات نفسية مردها إلى الهزيمة أمام تحدي الفكر الغربي وهيمنته على السياسة والاقتصاد والإعلام والصناعة والتقنية وكثير من شؤون الحياة. هذه التفسيرات النفسية فيها نظرات مهمة تستحق اهتماما خاصا بها في مقال مستقل.


حسم الجانب المنطقي

يحق لأي شخص من الناحية المنطقية أن يتبنى فكرا أو منهجا أو عقيدة لكن لا يحق له أن ينسب ما يتبناه إلى ما يتعارض مع هذا المنهج. فمثلًا لا يستطيع أن يدَّعي شخص أنه مسيحي كاثوليكي وهو لا يؤمن بالتثليث، ولا يستطيع أن يدَّعي شخص أنه شيعي إثنا عشري وهو لا يؤمن بإمامة الإثني عشر بأسمائهم. وبنفس المنطق لا يُمكِن أن يدَّعي أحدٌ أنه من أهل السنة وهو لا يؤمن بثوابت السُّنة، ولا يُمكِن أن يَنسِب منهجه لأهل السُّنة إلا إذا كان هذا المنهج من ثوابت أهل السُّنة.


أين صادمُوا المنهج؟

خاض هؤلاء التنويريون في كل ما له علاقة بالمنهجية السنية بدءأً بتفسير القرآن الكريم والاستنباط منه ثم الموقف من الحديث النبوي وعدالة الصحابة رضي الله عنهم ونظام الحكم الإسلامي. ونتج عن منهجهم المخالف هذا مواقف مناقضة لأهل السنة  في ميادين كثيرة مثل قضية التكفير والردة والجهاد واستخدام القوة وهُوية المسلم وعلاقته بغير المسلمين وقضية سن القوانين وتطبيق الحدود وغير ذلك.


تفسير القرآن الكريم

يفسر القرآن عند أهل السُّنة بالقرآن ثم بالحديث ثم بأقوال الصحابة والتابعين ثم باللغة العربية ثم بعد استنفاذ كل هذا يستطيع العالِم أن يقول رأيًا أو يضيف معنى آخَر في إطار ما استنفذه من هذه السلسلة وفي إطار قواعد الإسلام الكبرى. ولا يُقوم بالتفسير عند أهل السنة إلا من يملك القدرة على هذا الترتيب أو أن يلتزم بأقوال من سبقه ممن لديه المَلَكَة من المفسرين.


في المقابل فإن المنهج الذي يسلكه هؤلاء "المتنوّرون" هو، أولا: في أن يتصدى لتفسير أي آية في القرآن وهو لا يملك آلته، وثانيا: في تجاهل هذا التسلسل وإعطاء نفسه الحق أن يفسر كما يشاء وكأن القرآن كتابٌ عاديٌ يحق لكل إنسان أن يفهمه كما يريد. وإذا كان من يفعل ذلك يسلكه كمنهج كامل فهو يخرج تلقائيا من أهل السنة مهما زعم أنه سنيّ وقد يخرج من الملة إذا لجأ لأقوال هي من نواقض الإيمان. أما إذا كان موقفا عابرا في بعض الآيات مع اعترافه بالمنهج الأصلي لأهل السنة فهو مخالف لأهل السنة قطعا في هذا الرأي لكن لا يمكن إخراجه من دائرة أهل السنة.


الحديث النبوي

اتفق أهل السنة اتفاقا قطعيا على حجية خبر الآحاد (وهو الحديث الذي لم يبلغ حد التواتر). واتفقوا على أن الأصل في صحيحي البخاري ومسلم الصحة، وإن كان هناك ما يستدرك فهو استثناء قليل جدا ولا يستدركه إلا الراسخون في علم الحديث. واتفقوا على أن من يصح عنده حديث غير البخاري ومسلم بالشروط التي وضعها أهل السنة فهو ملزم بما جاء فيه بعد أخذ القواعد الشرعية التي تبين الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد. أما أصحاب التوجه التنويري فقد تعاملوا مع  الحديث النبوي على ثلاث مستويات:


المستوى الأول هو رفض المنهج السني في حجية خبر الآحاد وإعطاء أنفسهم حق الحكم على ثبوتها على أسس عقلية حتى لو انطبقت عليها شروط الصحة عند أهل السنة. ومهما زعم من يتبنى هذا المنهج أنه سنيّ فهو معتزلي بامتياز أو يشبه المعتزلة في منهج تقديم العقل على النقل. وليس المقام هنا إثبات حجية خبر الآحاد بل هو تأكيد القاعدة السابقة أن من يزعم انتمائه لطائفة فلا بد أن يلتزم بثَوابتهم.


المستوى الثاني هو في التشكيك في صحيحَي البخاري ومسلم، واعتبار كل ما فيهما عرضة للمراجعة والتصحيح والتضعيف تبعا للعرض على العقل والمنطق. وأخفّ هؤلاء درجة هو من يعطي نفسه حق رفض ما لا يعجبه من أحاديث البخاري ومسلم دون قدح في الكتابين ولا من جمعهما. وأسوأهم درجة من يتهكم بالكتابين ومن جمعهما ويسوق الأدلة المزعومة على استحالة جمع هذه الأحاديث فضلا عن التشكيك في صحتها. ومن يسلك هذا المسلك فهو منكر لثوابت أهل السنة وبهذا  يكون بالضرورة خارج دائرة أهل السنة. يستثنى من ذلك من يعترف بصحة الكتابين في الجملة ولا يعطي نفسه حق التشكيك في أحاديثهما لكنه متردد في التسليم لبعض  الأحاديث دون أن يكون لديه الآلة الحديثيّة التي تمكنه من ذلك. وهذا وإن كان مخطئا فلا يخرج من دائرة السنة والله أعلم.


المستوى الثالث هو التشكيك بكل مسيرة خدمة الحديث وجهود المحدثين، واعتبار كتب الحديث مثل غيرها من كتب الأخبار والتاريخ والرواية وما يعتريها من اختلاق وكذب وتزوير. ولا شك أن هؤلاء خارجون من دائرة أهل السُّنة وقد يخرجون من الإسلام لأنهم بهذا ينكرون تعهد الله بحفظ الدين من خلال حفظ الكتاب والسنة.


الصحابة

اتفق أهل السنة على عدالة الصحابة، وليس المقصود بالعدالة هنا العصمة، بل المقصود أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم بعيدون عما يخرم المروءة. واتفق أهل السنة على تحريم سبّ الصحابة أو التشكيك في أمانتهم أو إساءة الأدب معهم. والإيمان بعدالة الصحابة ليس موقفا عقديا فحسب بل هو موقف عملي لما يترتب عليه من الإيمان بالحديث النبوي الذي وصل إلينا لأنهم هم الذين نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم والتشكيك في عدالتهم تشكيك في الحديث النبوي كله.

وهذه التيارات تتفاوت في التعامل مع الصحابة، فبعضهم يتجرأ على صحابي واحد أو أكثر ممن أسلموا بعد الفتح وهذا لا شك مخالف لأهل السنة لكن لا يكون خارج دائرتِهم في الجملة، أما من يتجرأ على كبار المهاجرين والأنصار أو يرفض مبدأ عدالة الصحابة فهذا قطعا خارج دائرة أهل السنة حتى لو زعم أنه منهم. أما من يكفر كبار الصحابة فغالب علماء أهل السنة على أنه يخرج من دائرة الإسلام كلها.


الاعتماد المزعوم على المقاصد

هذه الظاهرة من ضمن النوازع التي ينزع لها بعض زاعمي التنوير، لا سيَّما الذين لديهم شيء من الجدل والقدرة على الكلام المُتفلسِف، إذ يقولون إن الشريعة تريد تحقيق مقاصد مُعيَّنة ويجب أن تكون هذه المقاصد مُقدَّمة على النصوص الموجودة في بعض الأحاديث أو في التفاسير الدارجة للقرآن.


ويزعم هؤلاء أن لهم سلف في ذلك في توجّه العلماء لأصول الفقه منذ أيام الشافعي ثم توجههم لنهج المقاصد الذي طرحه الإمام الكبير إبراهيم الشاطبي في كتابه العظيم "المُوافَقات". لكنهم في الحقيقة يخالفون كل أصول الفقه منذ الشافعي ومن جاء بعده وقد كان أساس تأصِيلهم لهذه الأصول تأكيدَ حجيّة الكتاب والسنة والدوران حولهما. أما الشاطبي فقد نَصَّ بشكل واضح في كتابه على أن هذه المقاصد لم يكن ليستنتجها إلا من النصوص، ولا يُمكِن لمقصد من مقاصد الشرع أن يخالف نَصًّا شرعيًّا، وإن ظهر ما يبدو كذلك فهو سوء فهم عند المتوسع في المقاصد وليس في مناقضة النص للمقاصد.


ومن يتجاوز النص بشكل عابر بحجة المقاصد دون أن يجعل ذلك نهجا فهذه مخالفة محدودة لا تخرج صاحبها من دائرة أهل السنة، أما من يتخذه نهجا عاما ويعطل النصوص بحجة المقاصد فهذا نهج معتزلي ولا شك مخرج لصاحبه من أهل السنة.


الاحتجاج بالتاريخ

من غرائب هذا التيار أنه في الوقت الذي يرفض فيه الحديث وهو ثاني الوحيين فإنه يقبل بالاحتِجاج بأفعال بعض الخلفاء العباسيين أو الأمويين أو ما درج من عادات جرى توثيقها في مجتمع من المجتمعات في التاريخ الإسلامي. ويزعم هؤلاء أنهم لم يبتدعوا هذا النهج بل إنهم يقلّدون الإمام مالك -رحمه الله- الذي كان يعتبر عَمَلَ أهل المدينة حُجةً أو مصدرا من مصادر التشريع.


والتذرع باحتجاج الإمام مالك بعمل المدينة مرفوض قطعا، أولا: لأنه لم يكن بين مالك رحمه الله وبين الصحابة إلا جيل أو جيلين مما يعني أن أثر النبي صلى الله عليه وسلم في التربية لا يزال حيا طريّا في مجتمع المدينة، بخلاف الأحداث التاريخية التي لا تمت بصلة لهذا التكييف، وثانيا: لأن مالك عاش في المدينة أكثر من أربعين سنة وعرف عمل أهل المدينة عن كثب، وثالثا: لأن مالك لم يأخذ بعمل أهل المدينة إلا في فهم النصوص وفي سياقها وليس بمعزل عنها. ولذلك فالاستدلال بالتاريخ الإسلامي منهج لا يَمُتُّ لأهل السُّنة بِصِلَة بل لا يليق ولا يجوز أن ينسب لأهل السنة.


الاعتماد على أقوال شاذة

إذا اختلف أهل السنة فإن خلافهم يبقى داخل دائرة الاجتهاد، وهذا ما يسمى بالخلاف المعتبر، لأن له أصله من النص والاستدلال. لكن قد يحصل نادرا أن يتجاوز البعض هذا الخلاف المعتبر إلى خلاف غير معتبر فينتج أقوالاً شاذة حذّر العلماء من العمل بها، وحذروا من تقليد النهج الذي أدّى إليها. وقد تصدر بعض هذه الأقوال  من علماء كبار مشهود لهم بالعلم أخطأوا فيها، ولعل خطأهم مغفور في غمرة ما قدموه من خدمة للإسلام وعلومه. ويعتذر لهؤلاء أنهم اتخذوا هذه الفتاوى الشاذة إمَّا بسبب جَهْلٍ في مسألة ما، أو عدم وصول الحديث إليهم، أو وجود ظرف ما أدى بهم إلى اتخاذ مثل هذا الرأي.


أمَّا من اجتمع لديه القرآن وتفسيره والسُّنة وشروحها وأقوال الأئمة والعلماء المُعتبَرين ثم يصِرُّ على قول شاذ لعالِم وهو لم يمُرّ بنفس الظروف التي مَرَّ بها والتي دفعته إلى تبنِّي هذا القول الشاذ؛ ويجعل هذا نهجا عاما له فهذا لا شك خروج عن منهج أهل السُّنة. والاحتجاج بأن هذا قول عالِم كبير مشهور لا ينفعه شيئا لأن العالِم مهما عَلا شأنه لا يجوز اتباعه في مسألة اتفق العلماء على شذوذه فيها.


أنتم أعلم بأمور دنياكم

لا يجوز عند أهل السنة أن  يستنبط من نص من النصوص الشرعية إلا بعد التحقق من الثبوت والدلالة. ولا يمكن التحقق من الدلالة إلا بفهم النص على طريقة الصحابة ووضع النص في سياقه بين النصوص الأخرى وبين قواعد الإسلام ومقاصده. ومن لا يلتزم بهذا المنهج الشرعي الذي ألزم أهل السنة أنفسهم به فهو غير محسوب منهم حتى لو زعم ذلك.


ومن أمثلة الخروج عن هذه القاعدة نزع عبارة "أنتم أعلم بأمور دنياكم" التي وردت في حديث صحيح من سياقها وتحويلها إلى منهج شامل يلغي مئات النصوص التي وردت في أحكام عظيمة حول الأمور الدنيوية مثل البيع والشراء والزواج والطلاق والإرث والتملك والسلطة والحكم والتي ورد فيها آلاف النصوص التي لا خيار للمسلم في العمل بها طبقا لمنهج أهل السنة. وكما قال أحد العلماء: "إن أطول آية في القرآن هي في أمور الدنيا، وهي آية الدَّين، والديون من أمور الدنيا"


هذا المنهج فأين التطبيق؟

هذا النهج المتمرد على ثوابت أهل السنة أدى لنتائج كثيرة في مواقف أصحابها من قضايا أساسية في حياة المسلمين، خاصة في مسألة الهوية والانتماء والعلاقة بغير المسلمين والحكم والقانون و التكفير والردة والحدود الشرعية والعلاقة بغير المسلمين والموقف من الربا، بتفاصيل كثيرة سيتم تناولها في مقال قادم بإذن الله .



bottom of page