٤ جمادى الأولى ١٤٤٥ هـ
طوفان الأقصى
هل ينتج قطفاً متأخرا لِثمار الربيع العربي؟
بقلم الدكتور سعد الفقيه
فرض الربيع العربي تحولات اجتماعية ونفسية غيرت الحالة العربية بشكل جذري، ثم جاءت الثورة المضادة فساهَمت في تعميق هذه التحولات والقناعات وإعادة تشكيل الوعي العربي والذهنية العربية. ورغم ضخامة هذه التحولات فقد بقيت تدور في المحيط المجتمعي ولم تترجم إلى تغيير سياسي بل واجهتها المؤسسات السياسية ببرنامج قمعي شامل أريد به أن تنحدر المجتمعات لمستوى أسوأ مما كانت عليه قبل الربيع العربي. وجاء طوفان الأقصى ليغلب الكفة الاجتماعية على السياسية ويهيئ بجدارة لمرحلة قَطف حقيقي لِثمار الربيع العربي.
عهد الشعوب ونبذ الحكّام
الروح التي اجتاحت المنطقة أيام الربيع العربي لم تنشأ عن رغبة حاكم في التغيير، بل انطلقت بشكل جماعي من داخل ضمائر الناس، وضَرَبت في أساس التركيبة السياسية والاجتماعية. ولهذا السبب فإن قواعد اللعبة وقوانين المعادلة تغيرت عما عليه الحال قبل الربيع العربي. وجاء طوفان الأقصى ليعمّق هذه الحقيقة ويؤكد الاختلاف الهائل بين وجدان الشعوب وتوجه الحكام.
زخم التغيير الذي حصل، وضخامة الأحداث التي يصنعها وتعقيدها، جعل أي قوة مهما بلغت من الدعم الإقليمي والعالمي غير قادرة أن توقف هذا الزخم أو تستوعبه، حتى لو أخرته قليلا أو عطّلت الجزء السياسي من مساره. ولهذا يمكن القول أن العهد القادم ليس عهد الحكام بل هو عهد الشعوب بعون الله. ومهما بلغ الحكّام من السطوة، ومهما حصل من التنسيق بينهم، ومهما استغاثوا بالقوى الإقليمية والعالمية، فلن يستطيعوا إيقاف زخم هذا التغيير الجماهيري بعد طوفان الأقصى.
كانت الشعوب تعلم أن الثورة المضادة إنما نُفّذت كَمهمّة خِيانيّة ضد مصلحة البلاد وعكس إرادة الشعوب، لكن الاستيعاب الكامل لدرجة الخيانة لم يترسخ في وجدان الشعوب إلا بعد طوفان الأقصى حين تبين بما لا يدع مجالا للشك أن هذه السلطات حليفة مخلصة للعدو خادمة له ضد العرب والمسلمين.
تغيير المفاهيم والتطلعات والاهتمامات
الرتابة التي عاشها الناس قبل الربيع العربي جعلت الاهتمامات محصورة فيما يمكن أدائه فقط، ضمن المباحات التي يسمح بها الحكّام من أكل وشرب ووظيفة ووسائل ترفيه مختلفة، سواء كانت مقبولة ديناً وكرامة أو غير مقبولة. أما المفاهيم فكانت مرتبطة بما يمليه الحكّام على الشعوب بسطوتهم وإعلامهم ومؤسساتهم الدينية والإعلامية والثقافية والتعليمية.
جاء الربيع العربي لينسف الاهتمامات والمفاهيم السابقة ويؤسس لتطلعات وآمال ومفاهيم جديدة مرتبطة باستقلالية الفكر والثقة بالنفس والرغبة بالانطلاق والحرية والاستعداد للتضحية. تحول الاهتمام والقلق من الميدان الشخصي إلى ميدان الأمة، وتغيرت المفاهيم من الرضا بالعبودية والذل والتبعية إلى التوق للحرية والكرامة والعدل.
لكن الأهم من ذلك هو التغيّر في الرؤية والهوية والانتماء والمرجعية والمسؤولية. بدأت ترتَقى رؤية العربي لنفسه وهويته من فرد في قطيع يقوده الحاكم، إلى شخص كامل الإنسانية يرى نفسه أمام بقية البشر منتميا لأمة عظيمة برسالة واحدة. وجاء طوفان الاقصى ليرسخ هذه الرؤية ويؤكد الفصام بين ما تريده الشعوب لنفسها وما يريده الحكام لهم، ويضيف أمرا أهم من ذلك وهو وحدة الرؤية بين كل الشعوب العربية.
تقبل العنف كوسيلة للتغيير
غلب على الشعوب العربية قبل الربيع العربي، بل وحتى في بداياته، التضايق من العنف وتحاشي حمل السلاح، وذلك لأنهم تربّوا لعدة أجيال على ترك مهمة العنف للسلطة. وإذا كان هذا هو تعريف الدولة -كما جاء عند الفلاسفة الغربيين- فهذا التعريف يليق بالدول التي تأسست بعقد اجتماعي سليم يعطي السلطة حق احتكار العنف حتى يطبق على من يستحقه تبعا لهذا العقد. الحال في بلداننا مختلف، فأولا لم تكن دولاً طبيعية تشكلت تلقائيا نتيجة صراع اجتماعي وتاريخي، بل هي دول تشكلت نتاج "مسطرة" القوى الاستعمارية، وثانيا هي دول مارس الحكام احتكار العنف فيها دون عقد اجتماعي ولا تفويض شعبي.
انطلق الربيع العربي براية سلمية صادقة، فكان المتوقع -والحال هذه- أن يتعرض الثوار للقمع الشديد، ثم ينقلب عليهم الوضع بما يسمى الثورة المضادة حتى يكون العنف ضدهم مبررا بطريقة أكثر "شرعية". ونظرا لأن الروح التي سرت في الثوار ليست مؤقتة ولا عارضة، كان لا مفر من اللجوء للسلاح، في حركة بدأت بالدفاع عن النفس وانتهت بحرب على المستبدين في بعض البلدان.
هذا اللجوء للسلاح بدأ دون تخطيط ولا قصد، ثم تطور حتى صار مشروعا قتاليا واسعا في حرب طويلة الأمد. استغرق الأمر مدة طويلة حتى ينتقل من مجرد دفاع عن النفس إلى مواجهة شاملة مع الطغاة، مما أعطى فرصة لتقبل تدريجي لاستخدام السلاح بل وتأييد من يحمل السلاح وتشجيعه والالتحاق به وجمع المال من أجله.
هذا التحول التدريجي غيّر أذواق معظم الناس في العالم العربي، وجعل حمل السلاح مقبولا في البلاد التي اندلع فيها القتال، وفتح له شهية في البلاد التي لم تنطلق فيها الثورات. أما طوفان الأقصى فتجاوز "مقبولية" استخدام القوة إلى جعلها أمرا مقدساً يحق لمن قام به أن يفتخر فيه.
تغيير موقع الجماعات والرموز
هيمن على المجتمعات خلال الفترة الرتيبة قبل الربيع العربي عدد من الجماعات والتيارات الإسلامية وغير الإسلامية، والتي استحوذت على النشاط الاجتماعي، وبقيت تتنافس فيما بينها ردحا من الزمن. ولذلك كانت كل محاولات الاستشراف السابقة تنحصر في تفوّق جماعة أو تيّار على جماعة أو تيار آخر. وكان واضحا أن هذا التنافس والصراع بين التيارات قبل الربيع العربي خاضع لنفس قواعد اللعبة السابقة تحت مظلة الحكومات والنظام الدولي القائم.
وفي نفس السياق فإن الرموز التي كانت مِلء السمع والبصر في شعبيتها قبل الربيع العربي تعرضت لاختبار في معنى العزة والكرامة، ونجح في هذا الاختبار من نجح وسقط من سقط. بل إن التجربة صنعت رموزا جديدة أثبتت بطولتها وعزتها وقوة انتمائها فالتف حولها الكثير ممن يتوق لرفع راية العز والاستعلاء.
كان التحرك الشعبي في الربيع العربي أضخم وأكبر من الجماعات والتيارات القائمة. لم تكن هذه الجماعات هي التي صنعت الربيع العربي ولم تُحسن استثماره ولا قيادته. ولهذا لم يكن غريبا أن يذيب الربيع العربي هذه الجماعات والحركات وينشيء بدلا منها تيارات أخرى أكثر قدرة على مسايرة تطلع المجتمعات، أو يجمع شذرات بؤر اجتماعية في تيار جديد. وحين كانت التيارات السلمية التي تداري الحكومات هي الغالبة على المشهد، صارت التيارات الثورية والمسلحة هي الأكثر قبولا، بل ربما استحوذت على الكثير من قواعد التيارات السلمية.
وبعد أن أرهقت الجماعات والحركات السلميّة بعد عقد من الثورة المضادة فإن طوفان الأقصى سيصنع ما يشبه تياراً واحدا في العالم العربي كله يتجاوز كل هذه الجماعات والحركات. وفي نفس السياق جاء طوفان الأقصى ليَفضح من لم يُفضح بعد من الرموز الخائنة ويرفع من شأن من يستحق الريادة.
الخروج من سيطرة وتلاعب القوى الخارجية
ليس من شك أن كل الحكومات في العالم العربي تجعل مصلحة السلطة الحاكمة مقدّمة على مصلحة الوطن والشعب، ولذلك كانت مداراة القوى العالمية والإقليمية أو التبعية لها من شروط بقائها. ولهذا السبب صارت أمريكا وأوربا متحكمة بِبلداننا حتى أصبح هذا التحكم من الحتميات التي جعلت مداراة هذه القوى لا يتعارض في وجدان الناس مع مبدأ الاستقلال.
حين اندلع الربيع العربي وسُحب البساط من أقدام السلطات، صارت الشعوب نفسها في مواجهة القوى العالمية والإقليمية. ونظرا لأن الشعوب إذا ثارت لا تراعي الموازنات العالمية فإنها لا تقلق من غضب هذه القوى، بل ربما تجد في مواجهتها متعة، لأنها تُشبع الرغبة في تأكيد الهوية والانتماء والكرامة والحرية.
ولذا فحين عجزت الحكومات أن تفعل شيئا أمام التمدد الإيراني، بل ربما ساهمت عن قصد أو غير قصد في توسّعه، جاء التصدي من الشعوب، وكل ما حصل في مواجهة هذا التمدد في العراق وسوريا واليمن إنما هو نتاج مباشر أو غير مباشر لنضال الشعوب بينما وقفت السلطات مع إيران أو كانت أضعف من أن تواجه تمددها.
وحين واجه طوفان الأقصى قوة إسرائيل وخلفها أمريكا وأوربا وقوى أخرى من خلال مدينة صغيرة محاصرة فهو إنما يرسخ في عقول وقلوب الشعوب هذا المعنى، بل يتجاوز ذلك إلى القناعة بالانتصار أمام هذا الحلف العالمي.
تجاهل سايكس بيكو
لا يعترف معظم العرب والمسلمين في وجدانهم الحقيقي بالحدود المصطنعة بين دولهم حتى لو تبجح "الوطنجيون" بالوطنية. ورغم كل ما بُذل لترسيخ مفاهيم الوطنية والقطرية لا يزال الانتماء المرتبط بها مفتعلا شكليا جاهزا للانحسار في لحظة سقوط الحكّام. وحين انطلق الربيع العربي في تونس ثم مصر وليبيا وسوريا واليمن، كانت قلوب العرب والمسلمين كلها معهم كما لو كان الحدث يجري في بلادهم.
طوفان الأقصى وما حصل بعده من مواجهة مع الاحتلال أخذ قلوب العرب والمسلمين كما لو كانت فلسطين هي بلدهم في مشهد موحد بين المسلمين من إندونيسيا إلى المغرب ومن تركيا إلى السودان. وليس المقصود هنا التعاطف الإنساني الذي انتشر في كل العالم والمبني على موقف إنساني مجرد، بل المقصود الولاء والأخوة الدينية والشعور العميق بالمسؤولية.
هل سيأتي طوفان الأقصى بنتائج أخرى؟
أيا كان سير الأحداث التي أطلقها طوفان الأقصى فإن التغيير السياسي على المستوى العربي والإسلامي قادم بعون الله. والتغيرات النفسية والاجتماعية والفكرية التي صنعها الربيع العربي ورسّخها طوفان الأقصى سوف تتراكم حتى تصل نقطة حرجة تجعلها جاهزة لأن تتمرد على كل التوازنات المحلية والإقليمية والعالمية. حين تصل هذه النقطة فإن حدثا ما سيقدح زناد سلسلة من التداعيات تنتهي بتغيير شامل يحقق تطلعات هذه الشعوب.