top of page
Anchor 1

الإسلام منهج وليس قالبا

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

بين التوجيه والتلقين 

يغلب على المسلمين تعلم دينهم بطريقة تلقينية فيها قائمة تعليمات سواء في العقيدة أو العبادة أو في الحلال والحرام. هذه التعليمات لم تكن في الفترة النبوية هكذا  سلسلة من الأوامر والمنهيات، بل كانت توجيها وتعليما وتربية أدى إلى مجموع ما يتدين به الإنسان لربه على المستوى الفردي والجماعي. وإذا كانت تعليمات الإسلام في الأصل نصوص الكتاب والسنة فقط فكيف تحولت إلى هذه القائمة من التعليمات التي توافقت الأمة على قبولها دينا؟

 

أصل المنهجية

الإجابة في التربية المتكاملة التي تربى عليها الصحابة على يد النبي صلى الله عليه وسلم عقيدة وعبادة وخلقا وحياة، والتي لم تكن تلقينا تفصيليا، بل كانت توجيها متواصلا على تفعيل النصوص الشرعية والأوامر في المجال البشري فرديا وجماعيا. لم يكن لدى الصحابة كتاب عقيدة ولا فقه ولا مذاهب، ومع ذلك كانوا هم المرجع في الآلية التي تتنزل فيها النصوص على الواقع البشري في كل الميادين. 

لقد تمكن الصحابة رضي الله عنهم بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم من فهم العلاقة بالخالق وما يريده منهم عقيدة وعبادة، وفهم نظام التعامل بين البشر مسلمهم وكافرهم، ولم يلاقوا صعوبة في إدارة شؤون دولة عظمى بمنهج وانضباط. وكان هذا المنهج واضحا وثابتاً ومطّردا ذا نظامٍ اقتصادي وسياسي واجتماعي وقانوني وقضائي وعبادي وسلوكي دون تكلف ولا قلق. ومن ذات المنهجية تعلموا فهم التاريخ وتفسير أحداثه وكيف يستفيدون من تجارب الشعوب الأخرى في الإدارة والكتابة والصناعات وتنظيم شؤون الحياة.

ميزات المنهجية

هذه المنهجية لها صفات جعلتها أهلا لترجمة النصوص -القليلة نسبيا- بكفاءة و استقرار وديمومة إلى هذا النظام المتكامل.

الصفة الأولى أنها شاملة خدمت كل أوجه التدين من العقيدة إلى العبادة إلى السلوك إلى نظام المجتمع إلى نظام الدولة. وهي كذلك شاملة في مراحل التعامل مع النصوص، من التلقي إلى الفهم إلى التطبيق إلى الاختلاف .. الخ

 

الصفة الثانية أنها منسجمة ومتسقة في كل تطبيقاتها، فآلية تطبيقها على نص مختص بالعقيدة هي في الجملة  الآلية نفسها في تطبيقها على نص مختص بالعبادة أو السلوك أو القضاء. الخ. 

 

الصفة الثالثة أنها تجمع بين الثبات والمرونة، فهي مستقرة في أصولها وقواعدها وكلياتها لا تتغير مع الزمان والمكان والظروف وأنواع البشر لأنها شمولية عامة مقاصدية تناسب الزمان والمكان والظروف وأنواع البشر.

الصفة الرابعة أنها ليست اختراعا فلسفيا أو عقليا خالصا بل هي مستمدة ومستنبطة من النصوص نفسها ، مما يعطيها قدسية بذاتها تبعا لتقديس النصوص التي استنبطت منها. 

الصفة الخامسة أنها رغم ثباتها فهي متجددة ولآلياتها القدرة أن تصنع حلولا لكل معضلة أو نازلة جديدة، وهي كذلك توفر منصة للإجابة على كل شبهة أو تساؤل لم يطرح من قبل.

المنهجية والمقاصد

قد يظن البعض أن علم مقاصد الشريعة هو نفس مفهوم المنهجية، ولا يستغرب هذا الظن لأن بينهما تداخل، خاصة في قضايا الفقه التفصيلية. المنهجية مرتبطة بآلية التديّن أو بمعنى آخر الإطار الأصولي العام  الذي نتعرف من خلاله على ما يريده ربنا في كل قضية عقدية أو عبادية أو سلوكية أو اجتماعية أو على مستوى الدولة. بينما المقاصد مرتبطة بالأهداف التي يراد إنجازها من خلال تحقيق التديّن. وفي مقابل هذا الفرق يجمع بينها أن كلاهما يُستنبط بشكل كلي من نصوص الشريعة التي في مجملها تعطي آلية شاملة لمعرفة طريقة التديّن لله وفي مجملها تنتج مجموعة أهداف يحققها هذا التديّن.

الموقع بين المذاهب والشرائع

من النتائج الجميلة لفهم المنهجية رسم خريطة للأديان والمذاهب ومن خلالها يمكن معرفة موقع أتباع أي مذهب وكأنها صورة شجرة بتفرعاتها. وهذا التصور لخريطة المذاهب أكثر وضوحا من مقارنة المذاهب والأديان بتفاصيلها العقدية والعبادية والحياتية. وهو كذلك أكثر ضبطا للالتزام بالمذهب لأنه اعتماد على الأسس التي أنتجت المذهب وإحالته إلى الآلية التي تمخض عنها الاعتقاد وتفاصيل الواجب والممنوع والمباح الخ مقارنة بأخذها سردا. 

 

ملحوظة: هذه المسألة سوف تتضح في نهاية المقال بعد أن تعرض تفاصيل هذه المنهجية.

 

ما هي هذه المنهجية وكيف نتعرّف عليها؟

كل شيء في الإسلام له منهجية، فهناك منهجية التلقي (مصادر التشريع)، ومنهجية الفهم والاستنباط، ومنهجية التطبيق، وتبعا لها منهجية الاختلاف، والمنهجية الاجتماعية، و المنهجية القانونية القضائية، ومنهجية الفكر، والمنهجية التربوية، والمنهجية العبادية، والمنهجية الحياتية -أي التعامل مع الحياة عموماً-. 

منهجية أهل السنة

الذي سيناقش هنا هو منهجية أهل السنة والجماعة مع لمحات -في مناسبتها- للمقارنة مع المذاهب الأخرى. صحيح أن تطبيق المنهجية يختلف بين المذاهب والأديان لكن تصنيف الآليات هو نفسه، بمعنى أن كل المذاهب والأديان لها منهجية في التلقي ومنهجية في الفهم وفي التطبيق الخ. وكل مذهب أو دين ينتج عقائد وعبادات ومدارس حياتية مختلفة تبعا لتفاصيل تلك المنهجية. 

منهجية التلقي 

منهجية التلقي (أو مصادر التشريع والصواب والخطأ) تعني الانضباط باعتماد مرجعية (نصّية) يعرف بها المسلم كيف يتعبد لله ويميز الصواب من الخطأ ويحدد الواجب والمباح والممنوع وغيرها من صياغة وتقويم شؤون الحياة الدينية والدنيوية، وهي أهم جزء في المنهجية عند أهل السنة. والخلاف في فهم النص لا يؤثر في أن يبقى النص الأساسي في المرجعية العامة هو الأساس لمنهج أهل السنة. ومنطلق المنهجية السنية في التلقي يمكن تتبعه في البنود التالية: 

  • من فضول القول التأكيد على مرجعية القرآن وسلامته من التحريف وأن من ينكر حرفا منه يخرج من الملة

  • يتفق أهل السنة على أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع وأن من ينكرها جملة يخرج من الملة. 

  • يتفق أهل السنة على حجية الحديث الصحيح في العقائد والأحكام سواء كان برواية الآحاد أو التواتر، والفرق بين الآحاد والمتواتر هو في الحكم على إنكارها، هل يخرج من الملة أو لا يخرج رغم الاتفاق على التأثيم.

  • ما روي في صحيحي البخاري ومسلم، هو في الأصل صحيح، ولا يجوز التشكيك فيه بعموم أما في في بعض المفردات والأسانيد فيسوغ مناقشتها للعالم المؤهل من غير ذوي الأهواء.

  • الحديث الذي لم يرد في الصحيحين وانطبقت عليه شروط الصحة عند أحد العلماء فهو مصدر شرعي ملزم لذلك العالم وليس ملزما لمن لم يصح عنده من العلماء.

  • المصادر الأخرى التي ذكرها العلماء مثل الإجماع والقياس ليست مصادر مستقلة بذاتها بل هي مستنبطة من الكتاب والسنة. 

  • علوم الحياة الأخرى، كالطب والهندسة والفلك والجغرافيا والتنقل والصناعة والزراعة والبناء والسياسة والإدارة وغيرها، فالأصل فيها التعلم المفتوح بجهد بشري إلا ما ورد عنه بالأمر أو بالمنع نصا صريحا.

  • العقل الصريح والنظر العقلي الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع نص ثابت،وخاصة القطعي من العقل أو النقل، أما الظني منهما فيرجَّح بينها ويؤخذ الأقوى دلالة،وقد يقع في نظر المجتهد تعارض بين العقل والنقل  فإن وقع في نظر المجتهد خلاف بينهما في ظني من الأمور فيُرجّح الأقوى منهما،فإن عجز فالنص مقدم.

  • الفطرة السليمة ينظر إليها في الاستدلال، فما خالف الفطرة القويمة المطّردة فإنه يُردّ، ولأن الإسلام في أصله دين الفطرة فإنه قطعا لا يخالفها، فإن وقع في نظر المجتهد خلاف بينهما في فرعي من الأمور فيُرجّح الأقوى منهما،فإن عجز فالنص أسلم وأحكم.

الخلاصة أن منهجية التلقي الأساسية لأجل التديّن هي الكتاب والسنة وما تفرع عنها مثل الإجماع والقياس، وأما أمور الدنيا فمن بحثِ الإنسان وحواسه ومن تعلمه من غيره.

المنهجية في الفهم والاستنباط

نزل الوحي بلسان عربي ونقل النصوص لنا الصحابة رضي الله عنهم وتعاملوا معها طبقا لتربية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون فهمهم للنصوص مقدم على أي فهم لغيرهم، أولا لأنهم حظوا بتلك التربية العظيمة، وثانيا لأنهم عاشوا البيئة التي تنزل فيها القرآن وأقوال وأفعال وتقريرات النبي صلى الله عليه وسلم.  و باستحضار هذين العاملين، اللغة العربية وتربية الصحابة يمكن الخروج ببعض القواعد في منهجية الفهم: 

  • الأصل في فهم النصوص هو ظاهر المعنى طبقا، للغة العرب،لفظا وتركيبا وأسلوبا ودلالة على المعنى  إلا إن وجدت قرينة تصرفه عن المعنى الظاهري، أو كأن يكون النص   محتمل الدلالة أو مشتركاً ولا يمكن حمله على ظاهره. 

  • أن يستحضر السياق الذي ورد فيه النص، وتستحضر النصوص الأخرى التي لها علاقة بالمسألة، ومن خلال ذلك تتبين أهمية الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وغيرها من القواعد التي تؤثر تأثيرا قويا في الاستنباط. 

  • أن فهم الصحابة للنصوص هو الأساس، سواء كان فهما لنص محدد أو طريقتهم في الجملة في فهم النصوص.

  • الاختلاف في الفهم أمر مشروع ما دام في حدود احتمال تعدد الفهم شرط أن يكون مِن مؤهل لذلك، وهو من أبواب الاجتهاد السائغ .

  • الاستنباط المحدد من نص معين لا بد له من فهم الظروف التي ورد فيها، لكن التوسع في الأحكام ليس محدودا بهذه الظروف، لأن العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

  • هذا الفهم والاستنباط ليس حكراً على جهة معينة أو مؤسسة دينية مثل هيئة كبار العلماء أو الحوزة أو غيرها، وإنما كل من لديه المعرفة بالقرآن والحديث واللغة العربية وأقوال من سبقه وهو مؤتمن في دينه مرضيّ في علمه -بمعنى أن لديه آلة الاجتهاد- فيحق له الاستنباط والفهم. وقد كان عمر رضي الله عنه يضع ابن عباس مع كبار الصحابة وهو في سن الثالثة عشر وقد أجيز ابن تيمية بالفتوى وهو ابن تسعة عشر سنة.

منهجية التطبيق

ثبوت النص ووضوح الاستنباط مسألة مستقلة عن وجوب تطبيق ما جاء فيه أو الاستنباط منه، وفي المنهجية السنية مجموعة قواعد في تطبيق الأوامر الشرعية يمكن تتبعها بالتالي:

  • يجب تطبيق الأوامر الشرعية إذا توفرت شروط التطبيق، وهذا يتفاوت بين  ما يجب تطبيقه فورا تحت أي ظرف مثل الصلاة، وبين ما لا يجب تطبيقه إلا باكتمال شروطه المركبة على مستوى المجتمع والدولة مثل واجبات الدولة المسلمة. وبين هذين الواجبين أحكام عديدة تتفاوت في شروطها كثرة وإمكانا.

  • المنهجية السنية تفرق بين تطبيق  أمور الإسلام الكبرى كالأصول والفرائض والمحرمات الظاهرة والواجبات المعلومة وبين تطبيق المندوبات والمباحات، وهذا المبدأ ينطبق على العبادات كما ينطبق على المعاملات. ففي العبادات ترتقي أهمية الصلاة والزكاة والحج كثيرا على النوافل والمندوبات، وفي العادات ترتقي أهمية بر الوالدين وصلة الرحم وإكرام الجيران عن حسن المعاملة بقية الناس وإماطة الأذى عن الطريق. والكلام ذاته ينطبق على التفريق بين المحرمات ودرجة تحريمها. بل حتى على المستحبات ودرجة استحبابها

  • ما اتفق على وجوب تطبيقه فلا مجال للتفريط فيه إذا توفرت شروط الوجوب وانتفت الموانع، ويكون حكم المفرط فيه بقدر درجة الوجوب. أما ما اختلف فيه فلا يجوز التفريط فيه بزعم وجود خلاف، لأن الاختلاف ليس دليلا من أدلة التشريع، فمن من صح عنده حكم مسألة وجب عليه العمل بمقتضاها ولا يعفيه الخلاف من وجوبها. والقاعدة نفسها تسري على ما اختلف على تحريمه.

  • لا بد من إدراك الفرق في مراعاة ظروف الفرد والمجتمع والدولة، فالظروف التي تناسب فردا أو مجتمعا أو دولة معينة ليس بالضرورة أن تكون مناسبة لفرد أو مجتمع أو دولة أخرى، فأحوال المجتمع والدولة في بلاد الحرمين مثلاً مختلفة عن أحوال المجتمع والدولة في تركيا، فهذه حديثة عهد بعلمانية شرسة وتلك يفترض أن فيها مكانة وهيبة الدين والشريعة.

  • الحكم الشرعي على من لم يطبق أمرا واجبا أو اقترف محرما ليس معلقا فقط بتعطيل الواجب أو فعل المحرم بل تقتضي المنهجية التحقق من  شروط اكتمال الحكم الشرعي عليه ومن موانع قد تمنع هذا الحكم. 

المنهجية في الاختلاف  

تتضح أهمية المنهجية في قضية الاختلاف أكثر من غيرها لأن الاختلاف في المنهجية هو أساس تفرع الخلافات. ومن خلال تصور خريطة المنهجية يمكن تصنيف الخلاف إلى ثلاث أنواع، خلاف عقدي-مَنهجي وخلاف فقهي وخلاف سياسي. 

الخلاف العقدي (المنهجي)

أصل الخلاف في العقائد منطلق من خلاف المنهج، سواء في قواعد التلقي أو قواعد الفهم. ولهذا الخلاف ثلاث مستويات

المستوى الأول داخل دائرة أهل السنة في قضايا عقدية و قضايا منهجية. 

 

ومثال الخلاف العقدي الخلاف حول رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في رحلة الإسراء والخلاف في تكفير تارك الصلاة كسلا. وسبب هذه الخلافات إما تعدد في الفهم أو عدم اتفاق على تصحيح بعض الأحاديث، أو الإحالة إلى تعدد مواقف الصحابة. 

ومثال الخلاف المنهجي داخل دائرة أهل السنة الخلاف حول حجية الحديث الحسن ومستوى هذه الحجيّة، وهل يجوز اختيار قول غير أقوال الصحابة إذا تعددت أقوالهم، وهل يصح إجماع غير الصحابة.. الخ. 

المستوى الثاني خلاف يُخرج من دائرة السنة سواء بسبب عقدي أو منهجي لكن قد لا يُخرج من الملة. 

ومثاله في القضايا العقدية القول بعصمة غير الأنبياء، وتكفير من لا يستحق التكفير، وتعطيل بعض الصفات بزعم تنزيه الله. 

ومثاله في القضايا المنهجية التشكيك جملة في البخاري ومسلم والتشكيك في حجية خبر الآحاد والتشكيك في عدالة الصحابة. فهذا الخلاف يخرج المشككين من دائرة أهل السنة إلى دارة أهل الملّة.

المستوى الثالث هو الخلاف في قضايا لا مجال فيها للبقاء في دائرة أهل الملّة، مثل إنكار معلوم من الدين بالضرورة أو الجرأة على مقدسات الإسلام الكبرى: الذات الإلهية والمقام النبوي والقرآن والدين، وغيرها من نواقض الإسلام. 

التحمل والعقوبة عند الاختلاف

تعتبر المنهجية السنية أكثر المذاهب تحملاً واستيعاباً للآخرين، فهي 

  • أولا تحكم بالظاهر ولا تقبل مبدأ التجسس والتنقيب عن عقائد الناس ولا امتحانهم، 

  • ثانيا تفرق بين ممارسة المبتدع لبدعته وبين دعوته إليها، 

  • ثالثا تراعي الفرق بين مستويات المخالفة للعقيدة السنية من بدعة خفيفة إلى بدعة هي من جنس الكبائر إلى  ما هو أشد من ذلك كالجَرأة على مقام النبوة أو الذات الإلهية، 

  • رابعا تفرق بين الحكم نظريا على الفكرة أو العمل، وبين تطبيقها على الشخص المعين.  

الخلاف الفقهي

يصنف أهل السنة الخلاف في قضايا الفروع "الفقه" إلى نوعين من الخلاف، معتبر وغير معتبر.

الخلاف المعتبر، ويقصد به أن كلا الطرفين (أو الأطراف) مجتهد قد استوفى شروط وأدوات الاجتهاد وتوصل إلى ما توصل إليه عبر المنهج الصحيح في التلقي والفهم والاستنباط. وتعود معظم أسباب ذلك إلى اختلاف في تصحيح حديث أو خلاف في تفسير آية أو فهم حديث أو تقديم رواية على رواية أو تقديم قول صحابي على آخر أو غيرها من وسائل الاستنباط والفهم عند الفقهاء.  

وهذا الخلاف لا يقدح في الدين ولا في العقيدة ولا في المنهج، وليس سببا في شحناء أو ضغينة بين المسلمين. وقد اعتبره علماء أهل السنة أمرا طبيعيا لم يؤثر في مودتهم ولا ولائهم لبعضهم. ومثله الخلاف في الجهر بالبسملة وقراءة الفاتحة بعد الإمام وتفاصيل أخرى في الصلاة والصيام والعبادات وأحكام البيع والزواج والطلاق والطهارة الخ. وهذا معظمه من خلاف التنوع المقبول ولا يكون سبباً في القدح، وكل أطرافه مجتهدون مأجورون. 

 

الخلاف غير المعتبر، وهو الخلاف الذي لا يقوم على اجتهاد سائغ، كأن يعتمد تفسيرا لآية مناف للغة العرب أو مناقض لأصل قطعي، أو يقوم على استنباط خارج إطار المنهج الشرعي، أو معتمدا على ما هو شاذ ليس له أساس من الشريعة. فهذا الخلاف لا يُعتدّ به، وليس له قيمة

 

التحمل والإلزام

تستوعب المنهجية السنية تعدد الرأي الفقهي إلا في موضعين، 

  • الأول: في مجلس القضاء الذي لا بد فيه للقاضي من اختيار أحد الآراء لفض النزاع، 

  • الثاني: في قرارات السلطة التي لا يمكن فيها تعدد الآراء -بحسب ما يحدده الشرع لا بحسب ما يهواه الحاكم- في القضايا الحكمية كأنواع الشركات وحق الشفعة أو في القضايا الحياتية التي لا بد فيها من قرار واحد كشق الطرق وأحكام البناء وأنظمة النقل وقرارات الحرب.

 

الخلاف السياسي

اختلف المسلمون سياسيا على مستويين من الخلاف، الأول سياسي محض دون دور للعقيدة فيه والثاني خلاف مرتبط بخلاف عقدي، ولكل واحد منهما منهجية مختلفة. 

الخلاف السياسي المحض، والذي وإن كان ضارا بالمسلمين فهو حتمي لا يمكن تحاشيه، ولذلك هيأ القرآن المسلمين له في آية الطائفتين، وهيأ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة له بأحاديث كثيرة. وهذا هو ما حصل فعلا بين المسلمين في معركتي الجمل وصفين ولم يترتب عليه أي تفسيق أو تبديع أو تفكير بين الطائفتين. وكان الصحابة رضي الله عنهم مستعدين للتعامل معه دون أن تجرفهم الحرب والدماء إلى إطلاق أحكام على بعضهم البعض تخرجهم عن دائرة الخلاف السياسي. 

الخلاف السياسي المرتبط بخلاف عقدي هو أن يبرر أحد الطرفين موقفه بحجج منهجية وعقدية يترتب عليه تبديع أو تكفير الطرف الآخر. ومثاله خروج الخوارج الذين برروا مواجهة بقية المسلمين بالسلاح فكفروا بقية الصحابة، واتخذ علي رضي الله عنه قرارا بقتالهم بصفتهم مبتدعة حملوا السلاح وكفّروا المسلمين متقربا بذلك إلى الله، خلافا لقتاله في الجمل وصفين. فهذا خلاف سياسي تداخل مع الخلاف العقدي.

تزوير علماء السلطة

من الاستطراد الذي لا بد منه في هذا السياق الإشارة إلى  ما يقوم به علماء السلطة في هذا الزمان من نفي الصنف الأول واعتبار أي اعتراض على الحكام مخالفة عقدية شرعية حتى لو كانت اعتراضا سلميا أو إنكارا لظُلم أو فساد. وفي هذا تضليل وتزوير مضاعف، فقد خرج الحسين رضي الله عنه بسلاحه على يزيد، وخرج عبدالله بن الزبير على الأمويين، ولم يقل أحدٌ أن هؤلاء خوارج. فإذا كان هؤلاء قد رفعوا السلاح في وجه حاكم يقيم الشرع ويحكم كل بلاد الإسلام ويحمي الثغور وهم مع ذلك مجتهدون مأجورون، فكيف يحكم على من اعترض بلسانه فقط دون سلاح في وجه حاكم لا يحكم بالشريعة ومعطل لشعائر الدين وهو ولا يسيطر إلا على جزء من بلاد المسلمين؟

المنهجية الاجتماعية 

المنهجية الاجتماعية في الإسلام موضوع واسع جدا وهذه إشارة لبعض اللمحات:

  • يرسخ هذا المنهج الوشائج الطبيعية بين البشر وهي القربى والجيرة والصداقة ويضع لها نظاما كاملا. ويوازن باقتدار بين ترسيخ هذه العلائق مع  منع العنصرية والتحزب. 

  • إضافة إلى تقوية المنهج للمؤسسات الاجتماعية التقليدية كالأسرة والقبيلة أنشأ الإسلام مؤسسات اجتماعية جديدة تُضاف إلى الأسرة والقبيلة، وهي مؤسسة المسجد ومؤسسة العلماء ومؤسسة الوقف ومؤسسة الاحتساب.

  • يفضل هذا المنهج مخالطة الناس على الفردية والانعزال، وأن المجازفة ببعض المخالفات الشرعية التي قد يفرضها  الاختلاط مقابل تحقيق كمية ضخمة من المصالح أولى من الانعزال.

  • في مواجهة الانحراف السلوكي الذي لا يمكن منعه بالكامل يهدف المنهج السني بوسائل كثيرة لمنع المجاهرة به. فالإسلام يحارب تطبيع الانحراف السلوكي لكن لا يجعل من غاياته استئصاله بالكامل لأنه غير واقعي.

  • المنهجية القانونية القضائية 

  • منهج الإسلام في القضاء موضوع واسع جدا لكن هذا  تعليق مختصر على المنهجية القانونية والقضائية في الإسلام:

  • يفرق الإسلام بين ركني القضاء الأساسيين، الأول: النصوص القانونية في الكتاب والسنّة وما يستنبطه العلماء منها لإصدار الأحكام ، والثاني: إجراءات التقاضي ونظام القضاء واختيار القضاة الخ.

  • وتفرق المنهجية القضائية في الإسلام كذلك بين الأحكام الشرعية التي لا تتبدل، وبين اجتهادات القضاة، لأن الأول حكم قائم بذاته مبني على النصوص، بينما الثاني تنزيل هذه الأحكام على قضية محددة فيها ظروف ومعطيات قد تكون سببا في تغيير الحكم لكل حالة بحسبها وفق الشرع .

 

المنهجية الحياتية العامة

هناك قواعد إسلامية في التعامل مع الحياة عموماً، منها:

  • الاعتماد على أهل الخبرة في كل تخصص ففي الطب مثلا يشرع استشارة الأطباء العارفين بالطب وليس المشعوذين والسحرة.

  • مشروعية البحث والدراسة والسير في الأرض.

  • مشروعية الاستفادة من تجارب الأمم.

  • استيعاب الأجناس البشرية والأعراق باختلافها وهذا ما فعله الإسلام حين انتشر في الأرض واستوعب الفارسي والرومي والتركي وأصبح منهم علماء ومبدعين في شتى المجالات.

  • تكامل وانسجام الشؤون الحياتية مع العقيدة والعبادة والسلوك وأحكام المعاملات، ولذلك لم يلاق المسلمون صعوبة في العلوم الطبيعية مثلما حصل مع الديانات الأخرى.

  • القبول بما تعارف عليه العالم من أنظمة دولية تؤمن حركة الناس فيما لا يخالف الشرع، فيما يسمى حاليا "القانون الدولي"، فقد أقر الإسلام مبادئ مشابهة مثل تحريم قتل الرسل وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفكرة حلف الفضول، وتسهيل التجارة بين الأمم الخ.

المنهجية في الفكر والتفكر

يوازن الإسلام في هذه المنهجية بين انطلاق العقل والتفكير وبين والالتزام بنصوص الوحي، ويبيّن الإسلام متى يجب الالتزام بالنص والانضباط به، ومتى يجب أن ينطلق العقل، ويبيّن كيف أن النصوص في الإسلام جاءت تؤيد الانضباط بالعقل، وكيف أن الانضباط بالعقل يقوي الالتزام بالنص، لأن هذه النصوص مصدرها خالق العقل، فانسَجم النص مع العقل، فهما لايتعارضان في قطعي منهما مطلقا..على أن النص يبقى في درجته بوصفه قاضيا، والعقل في درجته بوصفه شاهدا.

المنهجية التربوية 

التربية في الإسلام موضوع ضخم جدا لكن جلها يقوم على التفريق بين المخالفات السلوكية كالسرقة والاعتداء والقتل والغيبة والنميمة والزنا واللواط الخ، وبين ما يقدح في الأمانة مثل النفاق والكذب والغش وإفشاء الأسرار والخيانة. فالأولى معصية وكبائر لكنها لا تقدح في الدين إلا إذا استُحلت أو تهاون بها الإنسان إلى درجة قريبة من الاستحلال، بينما الثانية تقدح في أصل الدين وهي من خصل النفاق أو قد تكون نفاقا كاملا يخرج من الملة.

المنهجية العبادية

في العبادات تشدد المنهجية السنية على الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة من عبادات سواء كانت واجبات أو سنن، وتمنع أي نزعة لإضافات ليس لها أصل في الدين. فمَنهجية التربية العبادية في الإسلام هي أن الاجتهاد في السنة أجر وثواب والاجتهاد في البدعة إثم ومعصية وقد يكون كفرا.والقاعدة في هذا الباب أن العبادات الأصل فيها المنع حتى يرد دليل بالجواز أو المشروعية

نتيجة الانضباط المنهجي

  • كلما انضبط المسلم بالمنهجية كلما اقترب من تربية الصحابة في عقيدته وعبادته وسلوكه وحياته. وأما قيادات المجتمع المسلم فكلما انضبطت بهذه المنهجية كلما اقتربت صفة هذا المجتمع من مجتمع الصحابة. المشكلة أن بعد العهد عن التربية النبوية يعني أن إنجاز مثل ذلك فيه صعوبة بالغة، لكن النتيجة الجميلة تستحق إن يبذل لها أقصى الجهد لما في التشبه بالصحابة من فضل عظيم.

  • والانضباط بهذه المنهجية يعصم من الزلل العقدي ويحمي من الغلو والتطرف من جهة، وتمييع الدين وتذويبه من جهة أخرى.

  • والانضباط بالمنهجية يوسع دائرة التحمل في الفهم والتطبيق وفي نفس الوقت يمنع الجرأة على مقدسات الدين وثوابته، ويفرق بين سمو القاعدة وواقعية التطبيق. 

  • والانضباط بالمنهجية يرسخ ثقة المسلم بدينه وهويته ويعرفه بموقعه المتميز بين الأديان والمذاهب ويساهم في الطمأنينة القلبية والاستقرار النفسي.

وما دام لفهم المنهجية كل هذه الفوائد والنتائج العظيمة فلا بد أن يعطى تدريسها والتدريب عليها أولوية، وتغليب المنهج على التلقين فذلك أحرى أن يعود الأسلوب النبوي في تربية الأفراد والمجتمع إلى حياتنا الواقعية.

 

bottom of page