العلمانية والإسلام، من يتفوق؟
ابتداءً لا بد من بيان أن العلمانية ليست فكرا عارضا أو جدلا نظريا أو نهجا شخصيا متنوعا، بل هي منظومة شاملة، توفر مظلة لنشاط البشر سياسيا وقانونيا واقتصاديا، وتقدم رؤية للتعامل مع الظواهر الكونية والحياتية والنفسية، لا تكاد دولة في العالم حاليا تخرج من الإطار العلماني المادي، سياسة واقتصادا وقانونا، بل حتى في نظامها الاجتماعي والإغاثي والتعليمي.
هذا الشمول للعلمانية فعَّال لدرجة تمكنت فيه من تهميش الأديان الأخرى - ما عدا الإسلام - لأن هذه الأديان ليس فيها شمولية تُكافئ أو تنافس العلمانية، وكلها أُرغمت أن تعيش في كنف العلمانية بلا صدام معها ولا مغالبة.
بعبارة أخرى كل تلك الأديان لا تملك مشروعا سياسيا واقتصاديا وقانونيا، ولا رؤية صحيحة للظواهر الكونية والحياتية والشاعرية ولذلك جاءت العلمانية لتسدد هذه المجالات.
لكن لماذا يُستثنى الإسلام من قدرة العلمانية على تهميش الأديان؟ ولماذا لا تستطيع العلمانية استيعاب الإسلام تحت مظلتها الواسعة و المحتوية للأديان؟
السبب أن الإسلام في سعته وشموليته يتناول كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي تصدت لها العلمانية، ثم إن الإسلام يقدم رؤية شاملة للظواهر الكونية والحياتية والنفسية بديلة عن الرؤية العلمانية.
قد توصف العلمانية بالمرونة والواقعية ألا أن الإسلام يتمتع بها وبمرونة وانضباط و ملاءمته لكل زمان ومكان وجميع أصناف البشر.
هل تقف المقارنة هنا، أي عند القدرة على المجاراة الانتفائية الفاعلة أو الموازاة بين الإسلام والعلمانية، أو أن أحدهما يتفوق على الآخر؟ بنظرة فاحصة يتبين أن الإسلام يتميز بأمور جوهرية منها:
أولا: يتفوّق الإسلام في كونه راسخا في ثوابته وفي تحديده للحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والواجب والممنوع، وراسخا في كيفية تعامله مع الظواهر الكونية والحياتية والنفسية. أما العلمانية فليس فيها ثابت إلا اللذة والمنفعة، فما كان صوابا اليوم يكون خطأ غدا وما كان حسنا اليوم يكون قبيحا غدا، وما كان واجبا اليوم يكون محرما غدا، وكذلك ما كان مقبولا كرؤية وتفسير للظواهر الكونية والحياتية والنفسية اليوم يأتي ما ينقضه غدا.
هذه الميوعة والنسبية المفككة في التعامل مع الحياة التي سماها د/عبد الوهاب المسيري رحمه الله "سيولة" تقضي على تميز الجنس البشري عن بقية المخلوقات وتدمر إنسانيته، لذلك اعتبر المسيري العلمانية في حالة حرب مع فطرة الإنسان.
ويلتبس الأمر على البعض فيظن أن مبادئ حقوق الإنسان وقواعد الديمقراطية ونبذ العنصرية من ثوابت العلمانية، والحقيقة أن هذه أفكار مرتبطة بالليبرالية والتي هي واحدة فقط من تمظهرات كثيرة للعلمانية، يتبناها المشروع العلماني اليوم ويتنازل عنها غدا. بل إن الدولة التي تتبنى هذه القضايا وتعلن تمسكها بها لا تجد أدنى غضاضة في استعمالها أداة ضغط متى شائت وإهمالها إذا أرادت. ويغفل الكثير عن أن النازية والشيوعية وغيرها من مظاهر الدكتاتورية الشرسة إنما هي نماذج من العلمانية في مرحلة من مراحلها وليس مستبعدا أن تعود إليها وتتخلى عن الليبرالية، وإرهاصات ذلك بدأت في أوربا وأمريكا من خلال انتعاش اليمين المتطرف.
ثانيا: يتفوق الإسلام في طبيعة ما يحتكم إليه، ذلك أنه لا يمكن أن تترسخ الثوابت إلا بوجود مرجعية محددة، ولا يمكن أن تتحقق هذه المرجعية إلا بنصوص مقدسة وموثقة وصامدة أمام عوامل الزمن والتحريف، وفي نفس الوقت لها صفة الشمولية والواقعية، وفيها رؤية للظواهر الكونية والحياتية والنفسية، وهو ما تحقق في نصوص الدين الإسلامي "الكتاب والسنة". وهنا تفوق هائل للإسلام في اعتماده على نصوص محكمة ومتناسقة ومرنة وشاملة وصامدة أمام التحريف على العلمانية التي ليس فيها نصوص أصلا فضلا على أن تكون مقدسة أو شاملة أو ثابتة.
وكبديل عن النصوص تعتمد العلمانية على خليط من مفاهيم مائعة تلتقي في سياق "السيولة" والنسبية الآيلة للعدمية في منتهاها.
والإسلام لا يتميز على العلمانية فقط بل يتميز على بقية الأديان التي تفتقر إلى ثبات النصوص أو شموليتها أو مرونتها وواقعيتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. والكلام ذاته يسري على تميز الإسلام "السني" تحديدا على بقية الفرق لأن معظم هذه الفرق لديها مشاكل في شمولية النص أو واقعيته أو انسجامه وتكامله أو موثوقيته.
ثالثا: يتفوق الإسلام في تقديمه منظومة أخلاقية متكاملة للفرد والعائلة والمجتمع والدولة. فالإسلام فيه الواجب والمندوب والمكروه والمحرم، وما كان واجبا قد لا يكون للدولة قدرة على الإلزام به مثل صلة الرحم والإحسان إلى الجار، وما كان محرما قد لا يكون للسلطة قدرة على منعه أو معاقبة فاعله مثل سوء الظن والغيبة.
أما العلمانية فخالية تماما من الأخلاق والقيم ولا تُعرف فيها فضيلة أو عمل مندوب أو مكروه، وحتى في الواجب والممنوع لا تتعامل العلمانية إلا مع الواجب الذي يمكن الإلزام به بقوة السلطة والممنوع الذي يمكن منعه بقوة السلطة دون أي بعد قيمي أو أخلاقي. فالعلمانية باختصار وعاء ليس فيه اعتبار لأي فضيلة أو رذيلة وهي من حيث ذاتها خالية من المشاعر والوجدان والعاطفة. وكل القيم التي الصقت بالعلمانية في احترام الحياة والحرية والمساواة إنما كان التصاقا عارضا جاء بعد عقود من احتقار هذه المعاني، وقد يعود هذا الاحتقار، لانعدام الأصل الثابت وغلبة النفعية المادية والنسبية الأخلاقية.
رابعا: يتفوق الإسلام في قضية الهوية والانتماء، ذلك أن العلمانية فيها غبش يصل إلى التلاشي في مفهوم للهوية والانتماء، بينما الإسلام مثقل بها متشبع بمعانيها. والذين يعيشون تحت مظلة علمانية أو حتى من يتبنى الفكر العلماني بتطرف لو سألته عن انتمائه لبحث عن هوية أخرى غير العلمانية وغالبا ما تكون وطنه أو منطقته أو قوميته.
ومثلما يتميز الإسلام بأصل فكرة الانتماء المجردة فهو يتميز بقوة الانتماء والاستعلاء به ووضوح الهوية وحدية الفصل بين المحسوب على الإسلام وغير المحسوب على الإسلام، بينما لا يوجد شيء من ذلك في العلمانية مطلقا.
السبب هو أن الهوية في الإسلام مرتبطة بنيويا بأهم ركنين في رسالة الإسلام وهما توحيد الله والتبعية لرسله جميعا، في خط واحد منذ آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا. هذا الانتماء لصفوة البشر المرسلين من عند الله منذ آدم عليه السلام يجعل الاستعلاء والثقة بالانتماء أمرا تلقائيا.
خامسا: يتفوق الإسلام في تقديم منظومة روحية شاملة سواء في الإجابة على كل الأسئلة الغيبية التي يحتاجها البشر، أو في العبادات المشبعة للنفس الإنسانية، أو في لغة الخطاب للجانب الشاعري في الإنسان. وليس تحيزا أن يقال إن الإسلام منسجم في مشروعه الروحي مع النفس البشريّة، متوازن مع متطلباتها المادية، منطقي في تفسيراته الغيبية، واضح في التفريق بين المعايير الروحية والمادية.
ومعلوم -حتى للجهلة- أن العلمانية خاوية لدرجة الصفر روحيا، وطرحها عديم اللون والطعم والرائحة من الناحية الشاعرية. والظريف أن بعض العلمانيين حاولوا أن يصنعوا مشروعا روحيا بمظهر "علمي" فاستعاروا من الهندوسية والكونفوشية رياضات التأمل"Meditation" و حقنوا فيها -اعتسافا- مصداقية أكاديمية، ولم يكونوا ليلجأوا لذلك لولا شدة معاناتهم من الخواء الروحي. قارن ذلك بـ "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وتفوق الإسلام على العلمانية في الجانب الروحي لا يقف عند قائمة العبادات والإيمان المجرد بمجموعة من العقائد، بل هو عامل منسجم مع النظام الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والسياسي في الإسلام ومكمل له. فالمنظومة القانونية التي يقدمها الإسلام في العقوبة على الجرائم مثلا متكاملة مع نتائج التقوى المنطلقة من دوافع إيمانية روحية تمنع الجريمة، ومنظومة الإسلام الاقتصادية في تحريم الربا والغرر والاحتكار والغش يتممها الورع من ممارسة أي تعامل بالمال فيه حرمة بل حتى شبهة. ثم إن تطبيق القانون في الإسلام إنما هو عمل بالشريعة المأمور بالتحاكم إليها، وهذا يعني أنه ذاته عبادة يستحضر المسلم في تطبيقه الأجر وفي مخالفته الإثم، فأين مثل هذا الدور الروحي في العلمانية؟! وحتى الالتزام بقرار القضاة تحت حكم الشريعة يعتبر تعبدا لله وطاعة له بنص القرآن.
سادسا: يتفوق الإسلام في إلزام المؤمنين به بالدعوة إليه والدفاع عنه والتضحية من أجله، أما العلمانية فليس فيها شيء من ذلك ما دامت في الأصل خالية من النصوص المقدسة. وقد يحصل أن تحمي الصروح العلمانية بعضها بعضًا لكن هذه الحماية ليست تنفيذا لنصوص مقدسة وإنما كحتمية تحصل تلقائيا من تركيبة العلمانية لأي فكرة تريد أن تسود وتحكم.
وهكذا فالإسلام لا يكافئ العلمانية فحسب بل يتفوق عليها بجدارة، وبهذا فليس هناك خصم كفؤ للعلمانية سوى الإسلام. ومن هنا تتعايش كل الأديان مع العلمانية، بل بعضها يعتمد عليها وينتعش تحت مظلتها، بينما يصطدم الإسلام تلقائيا مع الطرح العلماني بدرجات متفاوتة من الصدام، مهما حاول أتباعه تفادي هذا الصدام.